كل صباح نفتح نوافذنا على انكساراتنا ننمو داخلها كطحلب أو فطر من نوع ما ، نمد أذرعا مزعومة بإتجاه شمس تصفعنا باللامبالاة وقد تنفحنا ببصيص أمل .
لاشيء تحت رماده اليوم إلا الرماد اختنقت ناره بدخانها بعد أن ظلت تلوك خيبتها مرا لتبصقها دما كمصدور .. هدأت لديه نزعة السباق مع نفسه بعد إذ ادرك عقم السباحة ضد التيار ، لكنه ظل يشعر رغم كل شيء انه سيكون على ما يرام !! لعلها حكمة الستين التي تمنح المرء صلابة الماس ومرونة القصب .
كان قرارا اتخذه دون سابق انذار كبلوغ الماء درجة الصفر او الغليان ، في لحظة بعينها . الوقت من حوله يتجلبب بالفراغ وأحيانا باللامحسوس ، يشرع شبابيكه على انتظارات تمتد الى ما لا نهاية ، يتأمل بصمت انثيالات صور اهترأت تحت شموس تكرر نفسها كفلم قديم ، يتساءل ببلاهة عن أيامه فيها فيتلعثم الجواب .. عن وجوه ألفها اختفت تباعا مخلفة فراغات في الذاكرة كثقوب سوداء ، ومع كل لم يكن الأمر بالسوء الذي تصوره كان أشبه بضياع ألوان من لوحة حياته حتى لم يتبق منها الا البياض أو اختفاء شهود اثبات على حياة لم تعد تهمه وذكريات تخبط بين خيبات وأخطاء فجة دفنت معهم .. مع بعض مواقفهم التي وقف ازاءها يوما ذاهلا أو مصدوما ! تنزاح كل الصـــــــــــــــور لتبقى صورة صديقه اللدود ( حقي ) حين يعلو صوته مرحا مع طرقات النرد وهو يقول :
•1الأمم يا صديقي كالأشخاص لها مصيرها .
كم كان مغرما ( رحمه الله ) بقراءة كتب التاريخ وروايات نجيب محفوظ حتى انه كان يحفظ بعض المقاطع عن ظهر قلب ويرددها بحماس كشاهد إثبات او خبير استراتيجي فيما شفتاه الغليظتان تمطقان السوائل العذبة الساخنة .
كان لكلامه نكهة الشاي المنقوع بالسكر جمعتهما قواسم مشتركة وأحلام كبيرة كالمطالعة ولوذ كل منهما بمقهى الحي هربا من الوحدة .. الوحدة التي فرضت عليه بعد هجرة الأبناء بعكس صاحبه الذي كانت وحدته اختيارية اذ أبى الزواج دون ذكر الأسباب فآثر بدوره تجنب إثارة الموضوع معه وظل متعجبا في سره من طبيعة هذا الرجل المتبلدة اللامبالية .. فلطالما استأثرت المرأة بجل اهتمامه ، وقد كانت له في دنيا الغرام صولات وجولات ولو أنه امتلك المال وقتها لما اكتفى بزوجة واحدة .
أما تلك التي شاركته سني شبابه وشيخوخته فقد ظلت لها المكانة الفضلى في نفسه ، مازال يسائل نفسه هل أحبها فعلا ؟ أم انها كانت المودة والعشرة التي غالبا ما تجمع بين الأزواج .
يمسح بكفه المتيبسة ما تفصد من عرق على مساحة جبهته الصلعاء ليهمس في سره :
•2الحب في الزواج ثعلب ماكر يختفي عن ناظريك فلا تلمحه الا في اشد الظروف غرابة ! كانت حلوة المبسم ودودا ولودا سخية اليد على شحة الموارد ، ظلت تخص والديها بشيء من مرتبها كل شهر حتى فاجأها ذلك المرض الذي لم يمهلها او يمنح عقله فرصة لإزدراد ما حصل .
زفر زفرة حرى وهمس محدثا نفسه :
•5كل شيء بسبب ولسبب .. مجيؤنا ، رحيلنا ، ما نحن الا ساعات أقتت على وقت بعينه .
برحيلها أخذت معها الكثير وإختفى آخر ألوان لوحته أجملها وأصفاها ، واليوم حين يسترجع شريط ذكرياته لايستطيع ان ينكر انه عاش معها حياة طيبة . الحق انه لم يتخيل امرأة غيرها رفيقة لدربه وانيسة لشيخوخته ، وحين غادرته جافاه النوم طويلا .. حتى نزواته الصغيرة انتحرت على جدران احزانه ، فالنزوة لاتكتسب بريقها .. قدرتها على التوهج و الادهاش الا بوجود من نخفيها عنه ! يسترجع تقاطيع وجهها الطيب وكيف تحاملت على نفسها واحتملت نزوته الأخيرة مع تلك الشيطانه الماكرة ، أجل فالزوجات يستحلن أمهات بطول العشرة ، لعلها ادركت بغريزتها استحالة التقاء خريفه بالربيع فتركته لشأنه حتى يعود الى رشده كحاله مع كل نزوة .. لكنها لم تكن نزوة في حياته لو تعلم ، بل حاجة .. حاجة الغريق للتشبث بقشة وإن كانت ستقصم ظهره أو تسحبه الى القاع بعد حين .
•6كل حلو مر كالعلقم في وجه من الوجوه ..
والدته كانت تردد أمامه :
•7الحلو حلو الطباع
زوجته كانت حلوة المعشر شاركته أزماته تقلبات حياته بصبر ، رغم ذلك لم تفهمه ، كانت تسايره دونما إيمان حقيقي به .. لم تفلح في إذكاء جذوة مشاعره أو اشباع رجولته .. أدرك بعد رحيل العمر انه عاش معها كذبة من نوع ما ! كذبة بيضاء أثمرت بنتا حلوة وخمسة أبناء انطشوا كبذور شقية حملتها الريح بعيدا لتنبت اشجارا غريبة حتى عنه . يبسم بسخرية اذ يتحسس منابت لحيته .. زوجته كانت مثل أكل المستشفيات أما تلك الماكرة فقطة وحشية بل فرس برية لاتطيق لجاما ولا سرجا وإن كان من الحرير .. كان على اتم الاستعداد أن يسلمها قياده ، يضع تحت قدميها كل ما يملك بما في ذلك حياته .. لكنها أبت . لم تشأ ان تفهم انها هي الوحيدة التي بمقدورها التي تمد عوده المتيبس بالحياة .. هي لم تشعر به فعلا لم تكترث له يوما والمرء لايفتقد ما لايشعر بوجوده ، لذا لم يكن الحنين ما عاد بها اليه بعد حين انما الانكسار والطمع .. عادت بعد إذ لم تعد به رغبة بها ولا بأي شيء .
لطالما آمن ان الحب ومضة سحر تنطفيء إذا لم يفلح الاثنان بإلتقاطها في الوقت المناسب .. حتى الحب لايستطيع تبرأته من الغش والعبث ، كيف لا وهو حيلة الطبيعة الأزلية لديمومة الحياة .. الحياة التي خاض فيها معارك لاتحصى ويدرك ان حربه فيها لم تنته بعد .. ورغم الأوسمة ( المؤلمة ) التي خلفتها فيه على هيئة جروح متخثرة في القلب وثغرات في الذاكرة ووهن مربك في كل مكان الا انه ظل يتعامل مع الأزمات كصديق ! أدرك مغزى الرسالة المرفقة معها ليظل الألم ختما على جدار الروح يذوي بعد إذ يهدي .. ادرك الآن ان قمة الألم .. لا ألم ، وأن منتهى العذاب يعني بداية نهايته . ومثلما إكتمال الشيء يعني نقصانه كذلك النهايات تفضي دوما الى بدايات أخرى . تمضي مخلفة وراءها حشد اسئلة كآثار أقدام حافية .. مخالب وقطط برية وألتوءات عجلات ترابية تنتهي حيث تختبيء الحكمة متلفعة بالصمت .
قال لطبيبه ذات مرة ممازحا بعد ان كثرت عليه الممنوعات :
- يادكتور انت تحرمني الحياة كيما أعيش !
صوت الطبيب يأتيه هادئا واثقا :
•8ما أخبار معنوياتك اليوم ؟
•9عالية كما أرجو
•10تعلم ان نسبة نجاح العملية ضئيلة
رد ممازحا :
•11فقط كن حذرا وانت تزرق الإبرة في وريدي .. فأنا اكره الإبر كما تعلم .
رد وهو يبسم في وجهه :
- أعلم .. والآن لو سمحت أريدك أن تخطو بإتجاهي خطوة واحدة .
الكاتبة المبدعة ايناس البدران
قصة جميلة وممتعة
ويهمنا تفاعلك مع نصوص الآخرين وتعليقك ورأيك
والرد على التعليق ليتسنى لمتصفحي النبع معرفة وجهة نظرك
سيما وانت امكانية جيدة ومعروفةوناقشتك حول ذلك في المؤتمر الانتخابي لاتحاد الأدباء والكتاب العراقيين
..تقبلي اجمل تحياتي