اقتباس:
ومدّ جـذورَهُ في طيــنِ روحـي
هو الدفءُ الذي غمــرَ الأنـــاما
(في طيــنِ روحـي) هي أحاسيس الشاعر وأفكاره، وأبرزتها عاطفته، فليس هناك تحكم في التزام نظم موسيقية معينة، تفرض على الشاعر، بل هو حر في صياغة شعره، على النحو الموسيقي المؤثر حيث جمع التربة والماء والروح ولاك بالطين كل المعاني اللغوية وأضاف البلاغة، ليكوِّن منها ايقاعاً له حركات متساوية الأدوار ولها عودات متساوية.
وبما أن الإيقاع متوازنٌ في جرسهِ، وأن البنية الشعرية لاتبدو في بساطة تلك الظلال الجديدة لدلالات الألفاظ فحسب، بل إنها تكشف وتجسد بهذا الإيقاع خلقًا جديدًا متمازجًا بالفكر واللغة والرّموز والصّور والرّوح.
هذا التطور بثبات القيم الصوتية والتوجه صوب حركة الداخل وحركة الدلالات النصية بوزنٍ واحد قد اتحد بنغماته وألحانه وتعاظم جماله بفعل التواصل والتفاعل بين معظم مكونات النص، ونسيج علاقاته.
اقتباس:
هــو الكونُ الذي أرسى شموسًـا
وأزْجــى الفُلْكَ وابْتَــدرَ الغـرامــا
عراقٌ جـزء قـلبٍ عـِشْـتُ فـيه
وكـلَّ القلـبِ أشْــغَلـهُ هيـامـــا
كثيرٌ من الشعراء يعشقون الموسيقى ويبدو أن شاعرنا الصرخي منهم وشعروا بأن الكلمة، في تأرجحها وعدم استقرارها، عاجزة عن أن تنقل ما في صدورهم من أحاسيس لذا استلهموا الموسيقى كثيراً من أفكارهم، حتى أن (أندريه جيد) يقول إني أود أن أكتب بالموسيقى.
ومن هنا اشتهر الكثير من الشعراء بأنهم «سمعيون»، مثل (ووردزورث)، وكان الكثيرون منهم يعشقون الموسيقى ولا يكتبون بدونها، وكان (صمويل بطلر) يكتب ويؤلِّف الموسيقى طوال حياته، وهو في ذلك شبيه بشخصيةٍ فريدة أخرى، هي شخصية (هوفمان)، الذي كان أديبًا وموسيقيًّا ومصورًا في آنٍ واحد، وكان له تأثير كبير في مجموعة الموسيقيين والأدباء الرومانتيكيين الألمان.
عراقٌ جزء قـلبٍ عـِشْــتُ فيه
وكـلَّ القلبِ أشْــغَلـهُ هيـامــــا
دعامتين: من الكم والنبر، تشكلان ايقاعًا ولو اختلفت وظيفتاهما، ولا يكتفي بذلك التردد الكمي، الذي يميز التفاعيل بحسن تلك الظاهرة الصوتية التي تتردد، وعلى ذلك فإن الوزن هنا يتضمن الإيقاع، والمصطلحان لا يُفهم أحدهما دون الآخر.
اقتباس:
تــسـامـتْ فيه أســرارُ البـــرايـــا
وأكــرمَ ذا الذي أســرى ورامـــا
وعـانقـتِ الســماءُ شذاهُ دهـــرًا
ودربُ المجــد بالـوَرْدِ اسـتـقامـا
هذا الاتحاد والإندماج التام بين الموسيقى والشعر يضفي عليه قوة ويزيد من قدرته التعبيرية والتأثيرية فيمكن القول بأن تنظيم الأصوات في البيتين أعلاه كونت وحدات تشويقة تردد ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة النسب ومرتبطة بنبض ايقاعي يتزايد جمالاً في التكرار.
وإن هذه الموجة الصوتية بحلل بحرها وبجمال أصدائها داخلة في صميم البناء الإيقاعي للشعر تسير سير الشاعر وتردد صدى أنفاسه وتلّون رؤيته فترسم من نغمها أجمل لوحة.
وإن خلق هذا الإيقاع الداخلي هو دور الصانع الحاذق والجوهري الخبير بمادة صياغته والعالم بالأسس البنائية في التركيب الشعري الخلاق.
اقتباس:
لِمنْ رامَ المعــالــي مــدَّ جــسْــرًا
ومنْ فــي درب فخْــرٍ لا يُسامى
كحُضنِ النخـلِ يحضنُ عـاشقِيـهِ
يـقـيـهُ هجـيـرةً تُذْكي الضِـرامـــا
حين نستغرق دون وعي بالموسيقى سننسى الزمان دون الإحساس به وسيغرقنا الإيقاع به، ومن براعة الشاعر هنا أن أتى بالجانب الزمني (الهجير) للصوت الموسيقي وقسم النبضات بين أحضان النخل وعاشقيه لكي نستشف أهم العناصر التي مورست في تنقية الوارد اللغوي حين مدّ جسراً، مما أضفى للفن الموسيقي حلاوة الإستغراق فيه.
وشاعرنا الصرخي فارسٌ في استغلال مكنوناته للتخطيط للعنصر الموسيقي لقصيدته وهو عالمٌ بأن صناعته هذه تتداخل فيها المعاني والكلمات والأوزان وهذه الثلاث لها علاقة وطيدة بالإنفعالات النفسية.
وربما للمتتبع أن يفقد احساسه بالزمان في حالات النشوة والوجد تبعاً لأحواله الوجدانية، فنفاذ الصبر مثلاً يطيل الزمان بينما السعادة تقصره.
اقتباس:
كـبـيــرًا كان فوق الحـتـفِ شـأنًا
وتحْذَرهُ الحُتُــوفُ فــلا يُـــرامـى
وأنـيـابُ النـوائــبِ إنْ تَـمَـــادت
أذاقَ مِسنَّـها مـوتًـــــا زؤامـــــا
الحساسية الإنفعالية الخاصة مازالت تتبلور في ذهن الشاعر ليصل بها الى حالة الإندماج التام والذي يقترب من النشوة الصوفية حين ينسى المشكلات الفنية (التكنيكية) التي تثيره الموسيقى فلا يستجيب الا لوحيي ألحانه.
ولما كانت الانفعالات بطبيعتها ذاتية تتفاوت تفاوتًا شديدًا تبعًا للأفراد، فإن إحساسنا بالزمان في الموسيقى يتفاوت بدوره تبعًا لدرجة حساسيتنا الانفعالية الخاصة، وقد يصل في حالة الاندماج التام، الذي يقترب من النشوة الصوفية، إلى فقدانٍ تامٍّ للوعي بانقضاء الزمان، سواء بالنسبة إلى المستمع حين يستغرق في الإنصات للحنٍ جميل أو إلى المؤلِّف أو العازف حين ينسى المشكلات الفنية (التكنيكية) التي تثيرها الموسيقى، ولا يستجيب إلا لوحي ألحانه. كما يذكرني البيت الأخير بشعر أمرؤ القيس:
فلمْ تُغْسَلْ جَمَاجِمُهُـمْ بِغِسْلٍ
ولكنْ بالدِّمَـــاءِ مُرَمَّلِينَــا
تَظَلُّ الطَّيـرُ عَاكِفَــةً عليهمْ
وَتَنْتَزِعُ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا
اقتباس:
حسيبٌ في الثريــا كان يزهـــــو
وتلتمــسُ النجــومُ له احتـكـامــا
تمادى الدهــرُ في إزهاق حــقٍ
فأقصى النُبْلَ واستدنى الطغاما
إن تقسيم النبضات الإيقاعية عند الناظم مدروسة بشكل متقن فجعلها بشكلٍ متساوٍ بطابعٍ موسيقيٍّ خلاب حين جعل الجرسَ زمكانياً بإشراك الصوت الموسيقي بالفلك ممثلاً باحتكام النجوم. ولا ننسى حلاوة التنقل هذه التي عمقتها ألفاظ الثريا والنجوم والدهر، وهذا الإختلاف والتنويع هو ما يعطي كل إيقاع طعمه ولونه. ويصبح التناغم الشكلي الذي يتضمن في رأيي إيقاع المفردات بالنظر إلى بنيتها المقطعية، وتبيان التناغم الذي تحدثه الظواهر الصوتية في بعض مفرداته جرساً موسيقياً يغنّى ويطرب كلّ ذي ذوق.
فهو يضع أنامله على بريقٍ خاطف وإشعاعٍ موسيقيٍّ خصيب لينتقي ألفاظه ببراعة مستبصراً بحاسة رهيفة تلتقط أدق الذبذبات وأعذب الإهتزازات، ويعرض عليها موجاته الإنفعالية فيتخيّر لها ما يُحملُها طاقة التعبير بما تختزن اللفظة في داخلها من قدرة.
وزن البحر الوافر