قراءة الأديبة الناقدة والشاعرة الفلسطينية الأستاذة جهاد بدران لقصيدة ( كَـفــــاكَ ) في أحد المنتديات وددت أن أدرجها هنا...
كَـفَــــــاك....
ما أبهى هذه الخريدة وما تحمل بين ضلوعها عطر العبر والحكم..
قصيدة من عالم الجمال نُسجت..
ومن وحي الحكمة جُبلت..
ومن نفحات العبر وَجّهت..
لتكون مَعلَماً أدبياً راقياً من معالم الأدب الذي يُفاخر به...
ليس إلا لاكتمال هلال البناء بدراً من البلاغة والتصاوير والتشابيه والصور الفنية المبدعة المتقنة..التي تعتبر توجيهات ومواعظ لإنسان طغت عليه أنياب الظلم لنفسه ولغيره..فبات عقيماً للفرح والسكينة والعيش الآمن ..من أمن ذاتي وأمن فكري وأمن اجتماعي..
ليصبح أسير العتمة والتخبط والإنحراف عن جادة الحق...
كفاكَ...
لمجرد أن نتجول بين أضلع هذا العنوان ..يتبادر لذهننا تساؤلات جمة ..تسقط تحت سياط النهي والزجر من أشياء جمة..
فكلمة ..كفاك..وحدها تدعم تفكيرنا نحو الخيال أن ينسج خيوطاً من بؤرة ما يحدث مع الإنسان في زمنٍ يباغتنا بكثرة ذنوب البشر ولا حياة لمن يعتبر إلا من رحم ربي..
خاصة وبعد أن امتدت أذناب الفسق والعصيان في ممارستها في تمزيق أواصر المجتمعات في كل مكان ووضع بصمة الظلم بين الأفراد..وهذا بكل تأكيد تخطيط مبرمج مدروس في توسيع بؤرة الفساد بين أغصان هذه الأمة المكلومة..
ومن منطلق هذا العنوان ودون قراءة المضمون..فإنه يرشدنا على وجود سوداوية في الحياة وفي الإنسان ..يريد الشاعر بها أن ينهى عن شيء ما ..فيه عبرة ونصح وتوجيه وابتعاد عن منكر ما...
يبدأ الشاعر الكبير بلوحتك الفنية الراقية بقوله:
( أيا كانِـزَ اللُّؤْمِ بين الضلوعْ
كلانا بحضـرة هــــذا السَـــفَرْ
سنلقاك يوماً وما من غراب
مُـوارٍ لســوءةِ عبـدٍ فَجَــــرْ
ويا أيها الذئب ذات التبــاس
ألـمْ تـدرِ؟ لليــل فجــرٌ أَغَـــرْ)..
أيا كانز اللؤم...
(أيا) هي من أدوات النداء للبعيد..
والنداء هو الوسيلة التي تُستخدم في إثارة انتباه شخص ما..
و( ويا أيها الذئب..) هنا ( يا) من أدوات النداء للقريب والبعيد..
فالشاعر مناداته اشتملت على الجميع..لإثارة انتباههم لما يريد ايصاله من تحذيرات وتوجيهات ونهي..سنتعرف عليها من خلال ما رسم من إبداع بين أروقة الكلمات...
( أيا كانِـزَ اللُّؤْمِ بين الضلوعْ
كلانا بحضـرة هــــذا السَـــفَرْ)
صورة شعرية تقشعرّ لها الأبدان..رُسمت بحرفية عالية وبناء محكم ..
عندما قرأتها ذهب خيالي لآية كريمة " والذين يكنزون الذهب والفضة"..
والشاعر هنا كنز اللؤم بين الضلوع لتكون صورة موحية لهؤلاء الممتلئة قلوبهم بالحقد والظلم والقسوة..
فكلمة (كانز..يكنز) معناها الذي يدخر المال دون أن يزكيه أو ينفق منه..بمعنى الوقوع بالآثام ..
{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
وأما كانز اللؤم..كناية عن الوقوع في المعاصي وما يغضب الله..فاللؤم واكتنازه في الصدور ..كناية عن قمة الظلم والسواد الموجود في القلوب..فكان تشبيهاً غاية في البراعة والإتقان ..ومهارة في توظيف الصور في مكانها المناسب وهذا يدل على براعة الشاعر في رسم حدود حرفه الفذ..
فيخاطب الشاعر هذا الإنسان الذي يحمل بين ضلوعه القسوة أن ..كلانا بحضرة هذا السفر...
يشمل نفسه وغيره وكل فئات المجتمع بأنهم في سفر من هذه الدنيا..وكل ما يجري على الأرض من فساد سيجد الإنسان أثر ذلك حين يكثر الظلم وتتمزق أوصال البشر عن بعضهم فلا يجدون من يقف معهم وقت الشدة ولا يجدون الرحمة فيما بينهم من كثرة القلوب الميتة الفاسدة..حيث عبّر عنها الشاعر بقوله
( سنلقاك يوماً وما من غراب
مُـوارٍ لســوءةِ عبـدٍ فَجَــــرْ )
تناص رائع من قصة الغراب وما حصل بين هابيل وقابيل في القرآن الكريم...كناية عن الفساد والقتل والظلم..
والصورة الشعرية هنا صورة موجعة جداً للفساد الذي عمّ الأرض وانتزعت الرحمة من القلوب...
( ويا أيها الذئب ذات التبــاس
ألـمْ تـدرِ؟ لليــل فجــرٌ أَغَـــرْ)..
وأما الذئب هنا صورة وكناية عن الخداع والمكر والدهاء الذي يُنصب بين عيون البشر الظالمة ..أفلا يدري أن ما من ظالم إلا وعقابه يدنو ..وما من ليلي إلا ويعقبه الفجر...
أترويْ غليـل موات السنيـن
بومـضة زيـفٍ طغى واندثـرْ)...
هنا يهز الشاعر الانسان من أعماقه ليعيده لرشد عقله كما كان في السابق من بياض العقل والقلب..يريده أن يصحو ..وهذه طبعاً عملية توجيهية إرشادية لمن غابت عنهم جمال الحياة ونقاء القلوب...فالقلوب اليوم أصبحت كالصخر ..وهذا تشبيه بليغ متقن في تعرية قلوب البشر في هذا الواقع المرير اليوم ..
(أما ترعويْ؟ أمْ تراه السراب
غَـوَاكَ بدربٍ يغـرَ البَـصَــــرْ
يحبّــك شيطانــها والشـــواذ
إذا شئْتَ واددْ لتـلقى سَـقَـــرْ)..
( أما ترعوي ).. صيغة سؤال باستفهام لحثه على الصحوة والتنبه بما في هذه الحياة من غرور وفتن ممتلئة بالفساد والشهوات مما تؤدي بصاحبها للجحود والتبختر بكبرياء من ظلم وقسوة..
يخاطبه الشاعر ..كفاك الجحود كفاك اختيالا..
ينبّهه حتى لا يكون سقر هو المأوى النهائي ..
يحذره ليعود عن غيّه والتيه الذي يلم به والفتن المحيطة به..ويكفي السواد البشري الذي يغطي الأرض بسبب التمزق في كل شيء والإنحرافات المختلفة التي سادت المجتمعات اليوم..
صور مذهلة ووترابط وإتقان مع الألفاظ وما تعكس من معاني تربوية عميقة تستند على النصح والتوجيه وصحوة للضمائر الميتة ..
وترتبط مع روح النص وفق الحس الداخلي والخارجي..مع اندماج النفس ونبرة الحرف وفق رموز تتفاعل مع هذا الإحساس الداخلي الذي يعيشه الشاعر في حلقة الأمة وتضاريسها المختلفة وفق فكر واعٍ حكيم ..
حيث يستند الشاعر على صور واقعية وتشابيه دلت على موقع الشاعر من البلاغة والفصاحة والبراعة في النسج..ضمن الدلالات المختلفة التي تقع على عاتق ذلك المجتمع المتفكك والفرد المفسد الضال...
(حنانيـــك يا خــالــقي أننــي
إليــك أوكّــل مـا في البشـــرْ
لبسنـا سـواداً على ضَيْـمنـا
كأن الســـوادَ لنــا مُدَّخَــــــرْ
ومـا زاغَ يـومـاً بنـا طـرْفُنـا
على جـارِنا أو بسوءٍ حَضــرْ)..
هنا الروعة تكمن حين يوكل الشاعر أمره لله ..بعد أن عاث الفساد بين البشر على الأرض..
(لبسنا سواداً على ضيمنا).. صورة موجعة مؤلمة متقنة الأبعاد والمفاهيم على كل الأصعدة..تصلح لكل زمان ومكان..وهذا هو سر جمالها وقوّتها في النظم.. فما الضيم إلا
الظلْم..والإِذْلال أو المَذلَّة...التي كانت من عمليات الإفراز الفردي وعلى مستوى جماعي ومجتمعي..فنتيجة حتمية من تناسل الظلم والهوان والمذلة أن ينبت لباس السواد في النفوس..لأنهم من زرع ذلك وتم حصاده علقماً...لعدم التعاضد والتكاتف والتوادد بين أفراد المجتمع الواحد...
تعــال أصالـح فيــك الزمــان
وأســمو بروحـك عن منحَـدرْ
فروحيَ تأبى شــذاذ النفوس
وليـس بقلبـي لهــا مستــقـرْ)...
هنا الروعة في قمة الإنسانية لدعوة الأفراد للتصالح ونبذ الفساد وتغيير النفوس وتوجيهها لمصالحة الذات ..فالمجتمع يستقيم من استقامة أفراده..والمجتمع يبدأ صلاحه من صلاح الفرد..ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..قال تعالى:
" ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".. سورة الأنفال 53..
" وقول الحق تبارك وتعالى في سورة الرعد: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" 11 الرعد..
فعملية التغيير والإصلاح في أي مجتمع تبدأ من الفرد أولاً ومن مبادرته بذلك..
ويختم الشاعر لوحته الراقية النفيسة بدرر هي خلاصة التوجه إلى الله..
(ولكنّ ربيْ هــدى بالسمــاحِ
إليه الردى والهـدى والظفـرْ
فوجّه لصوب السماء اليدين
وقـلْ هاكَ عبـدٌ بكى واعتَــذَرْ)..
بمعنى أصلح نفسك مع الله يصلح الله نفسك مع كل شيء..
عملية تربوية وتبليغ رسالة هادفة وسامية ودعوة لله في إصلاح الذات وتوجيهات تربوية قدمها الشاعر على طبق من ماس لمحاسبة الذات قبل محاسبة الله لنا وحتى يصلح مجتمعاتنا..فحين نمد الأيدي للسماء بصدق وخشوع وتبتل ..فلن تعود خاوية من رحمة الله وهدايته ورحمته..فقط ينقصنا حسن التوجه إليه والصدق في الدعاء..والتدبر والخشوع في آلائه لنيل رضاه وهدايته..
(وقـلْ هاكَ عبـدٌ بكى واعتَــذَرْ)..
الشاعر يذكر عملية البكاء والإعتذار ..
وهذه العمليات إنما قمة الخنوع والتودد لله بالمغفرة وهي دليل الصدق في المشاعر ..
وهذا ما يحتاجه كل فرد في محاسبة نفسه لتستقيم في محراب الله..
كفاك..
كفاك..
أيها الإنسان الظالم لنفسه ولغيره
وكفانا جميعاً ظلماً وبعداً عن دروب الحق واتباع الهوى...
...
الشاعر الكبير المبدع المحترف في صياغة الكلمات النفيسة البليغة في النفس أثرها...
الأستاذ ناظم الصرخي
قدمت لنا لوحة فريدة جمالها سحري تحمل نفحات الوعظ والإرشاد والموعظة الحسنة ..
وهذه رسالة الشاعر المبدع ليرتقي بشعره نحو الكمال والجمال والجلال..فالشعر مرآة الشاعر وذاته وأفكاره وعقيدته ومبادئه...
في هذه الخريدة قدمت لنا تراكيب لغوية متقنة مندمجة مع المؤثرات الذاتية التي منحت الخيال أبعاداً تتلاءم مع الحدث والمشاعر المدفونة والتي تصادمت مع الواقع الإنساني الذي أثار البوح بما يتلاءم مع الحدث والأزمة الخانقة اليوم..وبتجسيد محكم يصور عبرها الفكر الناتج وبناء المجتمعات التي وصلت لدرجة التفكك وعلاقتها بالفرد ..
ألفاظ إبداعية مشحونة بالدلالات المعبرة عن صفات الفرد والمجتمع...
بوركتم وقلمكم النفيس وحرفكم البديع وما تنسجون من جمال وتألق..
قراءة واعية
أعطت الأبيات حقّها من التدقيق والغوص وراء الكلمات
ولا عجب حين يكون النص بهذا المستوى من الجمال
شكراً أخي ناظم على إتحافنا بهذه الرائعة
مودة تليق
جهاد بدران من اروع النقاد العرب ..فهي تغوص في النص لتكشف للناص دواخله ودوافعه بعضه يجهله
لكون الدوافع كوامن باطنية ذاتية منتجة من تفاعلات الذات الغير مرئية ..
وهذا النص الرائع لشاعرنا الجميل ناظم الصرخي ..أستحق هذه الوقفة الأدبة من قامة ناقدة محترمة
وبادرة رائعة امن شاعرنا الجميل الصرخي لنقله نقدها وهو تقدير لجهدها وعرفانا لجميلها قبل أن يكون لنصه
فائق تقديري ومودتي
قراءة واعية
أعطت الأبيات حقّها من التدقيق والغوص وراء الكلمات
ولا عجب حين يكون النص بهذا المستوى من الجمال
شكراً أخي ناظم على إتحافنا بهذه الرائعة
مودة تليق
الشكر لك وهذا الحضور البهي أختي حنان
دمت لؤلؤة النبع وسر التوهج
تقديري
وأزكى التحايا
جهاد بدران من اروع النقاد العرب ..فهي تغوص في النص لتكشف للناص دواخله ودوافعه بعضه يجهله
لكون الدوافع كوامن باطنية ذاتية منتجة من تفاعلات الذات الغير مرئية ..
وهذا النص الرائع لشاعرنا الجميل ناظم الصرخي ..أستحق هذه الوقفة الأدبة من قامة ناقدة محترمة
وبادرة رائعة امن شاعرنا الجميل الصرخي لنقله نقدها وهو تقدير لجهدها وعرفانا لجميلها قبل أن يكون لنصه
فائق تقديري ومودتي
نعم كما قلت أخي الغالي فالأستاذة جهاد بدران من النقاد الذين لا تهمهم هوية الناص أو أهوائه وعلاقاته بل ماهية النص ونقاط ضعفه وقوته ومدى تأثيره في الوسط الأدبي .
تقديري لنبض يراعك
وأزكى تحياتي
قراءة موغلة في ثنايا النص بأدوات نقدية متمكنة زادت
النص جمالا إلى جماله الآسر بلغتة ونغمه وغايته
تحية تليق أستاذ ناظم والشكر موصول للناقدة والشاعرة
الكبيرة جهاد بدران.. ودمتم في رعاية الله وحفظه.
التوقيع
لا يكفي أن تكون في النور لكي ترى بل ينبغي أن يكون في النور ما تراه
قراءة موغلة في ثنايا النص بأدوات نقدية متمكنة زادت
النص جمالا إلى جماله الآسر بلغتة ونغمه وغايته
تحية تليق أستاذ ناظم والشكر موصول للناقدة والشاعرة
الكبيرة جهاد بدران.. ودمتم في رعاية الله وحفظه.
ولك كل التحايا والتقدير
لهذا الحضور وهذا العبير
وفقك الله ورعاك أخي العزيز أ.تواتيت