في أول ليلة له في زنزانته التي ستصبح بيته و سكنه للسنوات القادمة، استلقى أنيس على سريره الغير مريح و أغلق عينيه ليشاهد حياته تمر كفيلم سينمائي في مخيلته.
توفي والداه في حادثة سير مروعة و عمره لم يتجاوز الخمس سنوات. تكفل به عمه الذي جرده من إنسانيته و حريته و عامله كعبد لديه . و لم يتمكن أنيس من الهرب من قيود هذا السجن المفروض عليه إلا بعد خمس سنوات، و لكن ليحتضنه عالم الشوارع و التسكع. تعرف على مجموعة من الأطفال و الفتيان في مثل وضعه و سنه.
عند بلوغه عمر الثالثة عشرة سنة ، دخن أول سيجارة له بتشجيع من أصدقائه.
و وعند بلوغه عمر الخامسة عسرة ، دخن أول ً جوان ً ، أي سيجارة محشوة بالحشيش.
وعند بلوغه عمر السابعة عشرة، أصبح أنيس مروجا للمخدرات.
و عند بلوغه عمر العشرين سنة، قبض عليه و حوكم كما رأينا في بداية هذه القصة.
داخل زنزانته ، تعرف انيس إلى ً الأستاذ إدريس عايق ً ، المحكوم عليه بالسجن خمسة و عشرين سنة لقتله زوجته و عشيقها في عقر داره.
أطلق على إدريس لقب الأستاذ لأنه كان يحمل دائما بين يده رواية أو كتاب فلسفي أو تاريخي. و أيضا لأنه أقنع مدير السجن بتخصيص إحدى الغرف الفارغة في إدارة السجن لتصبح غرفة دراسة يقوم هو شخصيا بتعليم المساجين الأميين أو الذين لم يسعفهم الحظ لإتمام الدراسة.
توطدت العلاقة بين أنيس و الأستاذ إدريس و أصبحت العلاقة أخوية أكثر منها علاقة بين تلميذ و أستاذه أو بين مسجون و زميله في الزنزانة. و كان إدريس أول من اطلع على أولى المحاولات الأدبية التي قام أنيس بتأليفها و هي عبارة عن قصة قصيرة. قام الأستاذ إدريس بتصحيح بعض الأخطاء النحوية و اللغوية التي شابت القصة القصيرة و قام بإرسالها لأحدى الجرائد المغربية.
أسبوعين بعد ذلك ، رأت النور أول قصة قصيرة بقلم السجين أنيس العاجي. و قد أقام مدير السجن احتفالا رمزيا لبروز محاولة أدبية من سجنه و أيضا لأنه شاهد بأم عينيه أن فكرة الأستاذ إدريس إنشاء قسم دراسي قد أتى أكله مما سيزيد من بروز نجمه في أوساط الوزارة الوصية.
لم تكن المحاولة الأدبية لأنيس وحيدة. بل ، وبفضل إعجاب القراء بقصته القصيرة الأولى، و بتشجيع من الأستاذ إدريس ، كتب أنيس إحدى عشرة قصة قصيرة رأت جميعها النور في الزنزانة و نشرت في الجرائد المغربية.
و أمام هذا النجاح الغير متوقع ، اقترح الأستاذ إدريس على أنيس كتابة رواية يروي فيها قصة حياته منذ وفاة والديه و حتى نشر أول قصة قصيرة له.
أعجب أنيس بالفكرة و بدأ فعلا بكتابة المسودة الأولى التي كان يطالعها اهتمام الأستاذ إدريس و الذي يقوم بتنقيحها و تصحيح الأخطاء التي يرتكبها أنيس نظرا لعدم تمكنه من قواعد اللغة العربية.
عند انتهائه من كتابة الرواية، بعث بها لأحدى دور النشر التي أعجبت بالرواية و قررت طبعها.
و فعلا ، نشرت القصة في شهر أكتوبر من سنة 1998 و أشاد بها النقاد و المفكرين و الفاعلين الجمعويين نظرا لأنها تمثل حالة اجتماعية استطاعت بفضل الإصرار و المثابرة على الخروج من نفق المخدرات و تأسيس ركائز جديدة لحياة مليئة بالأمل و السير قدما نحو النجاح.
لكن فرحة أنيس لم تكتمل بخروج مولوده الأول للناس. فقد أصيب الأستاذ إدريس بنوبة قلبية حادة لم يستطع الأطباء حيالها أي شيء. فقد اختاره الرفيق الأعلى إلى جواره. و قد كانت الصدمة كبيرة جدا على أنيس حتى انه لم يأبه لتهاني إدارة السجن و أصدقاءه المساجين بنشر روايته الأولى.
بكى أنيس على أستاذه و صديقه كما لم يسبق له أن بكى على قريب أو عزيز.
ولكن الحياة يجب أن تستمر و لا يجب أن نقف عند حدث الوفاة الذي هو سنة هذه الحياة.
زار مجموعة من الصحافيين السجين أنيس لاستجوابه و محاولة التعرف عليه أكثر و تقريبه لقرائه الذين أرادوا معرفة المزيد عن هذه التجربة الناجحة للسجين الذي أصبح أديبا. و لكن أنيس كان دائما يردد : ً لولا أستاذي و صديقي المرحوم إدريس عايق لما كان هناك كاتب يدعى انيس العاجي و لما رأت الرواية النور ً
و مرت السنين برتابة و لكن وصل أخيرا موعد خروج أنيس من السجن.
وجد أنيس عملا في إحدى المطابع و قام بإنشاء جمعية تهتم بتقديم المساعدات الاجتماعية و التعليمية لأطفال الشوارع في مدينته و محاولة إنقاذهم من شبح تدخين السيجارة و المخدرات. و قد أطلق على الجمعية اسم ً جمعية اقرأ للشباب الناجح ً
وذلك لأنه كان يزرع في عقول الذين يرعاهم انه لا شيء يحول بينهم و بين الحلم بمستقبل زاهر و السعي وراء تحقيق الأحلام.
و لا زلت الجمعية تقوم بالأهداف التي وضعها لها السجين أنيس و قد أنقذت مجموعة كبيرة من شبان الشوارع في العشر سنوات الأخيرة.
و قد قمت يوما بزيارة الجمعية لإجراء لقاء صحفي مع أنيس العاجي و ذلك لأنني كنت بصدد الإعداد لربورطاج عن الجمعية. أدخلني أنيس إلى مكتبه و أشار إلي بالجلوس على أحد الكراسي. خلفه تماما كانت صورة مكبرة لشخص في الأربعين من عمره. سألته إن كانت تلك الصورة لوالده لأنني لم ألاحظ أي تشابه بين انيس و صاحب الصورة.
ابتسم أنيس ابتسامة حزينة و قال : ً تلك صورة لأستاذي و منقذي و صديقي إدريس عايق الذي لن أنس فضله ما حييت. ً