عبد الناصر طاووس
الكون مجّــد والعــقول تحــررت*** وتحطّمت بقدومـك الأصـنامُ
وتباشرت بك في السماء ملائك*** وتـنـاقـلـــت آيـــاتـك الأقــلامُ
هذا الّذي ملأ الحياة محاسنــاً ***فتحـــررت بحــلوله الأحـــــلامُ
وانزاح عن هذي العوالم إصرها ***وترســخ الدين القــويم الهامُ
في كل عام وفي شهرربيع الأول،تمر ذكرى المولد النبوي. فيستعد الناس للاحتفال بقدوم سيد البشر صلى الله عليه وسلم محمد لما لولادته مكانة عالية في قلوب المسلمين؛ ولعظيم الأثر الذي تركه على الدنيا بأسرها، وبسبب ما جاء من تعاليم غيرت معالم الحياة، وبدلت منحى التاريخ، ووضعت للناس أسساً وقيماً جديدة بكل صور ها، من اعتقاد وتشريع وأخلاق، ومبادئ ومنطلقات، قادت من خلالها الناس إلى أر فع مستوى عرفه التاريخ، إلى يومنا هذا والى أن تقوم الساعة.
يقول العباس بن عبد المطلب عم النبي في يوم ولده:
وأنتَ لمَّا وُلدتَ أشرقت ***الـ أرضُ وضاءت بنورك الأفُق
فنحن في ذلك الضِّيـاء وفي*** النُّور وسبل الرشـاد نخترق
تاريخ الاحتفال بالمولد
على الأرجح تعود بداية الاهتمام بيوم مولد رسول الإسلام إلى النبي محمد نفسه حين كان يصوم يوم الاثنين ويقول "هذا يوم ولدت فيه"رواه مسلم في صحيحه عن أبي قتادة الأنصاري، حديث رقم: 1162.، وحسب أبو شامة، فإن الملاء هو من ابتدع احتفال المولد. Katz, Marion Holmes (2007). The birth of the Prophet Muḥammad : devotional piety in Sunni Islam (1. pibl. ed.). London [u.a.]: Routledge. pp. 2-3. ISBN0415771277.
فيما يذكر الإمامان السيوطيان أول من احتفل بالمولد بشكل كبير ومنظم هو صاحب أربل الملك المظفرأبوسعيد كوبري بن زين الدين علي بن بكتكينحسن المقصد في عمل المولد، تأليف: جلال الدين السيوطي. ، والذي وثقه علماء السنة بأقوالهم:
قال السيوطي وابن كثير:أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد، وكان له آثار حسنة، وهو الذي عمر الجامع المظفري بسفح قاسيون.
قال ابن كثيرأيضا: كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عالما عادلا وأكرم مثواه البداية والنهاية لابن كثير13/136
وذهب ابن خلكان في ترجمة الحافظ أبي الخطاب ابن دحية: "كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، قدم من المغرب فدخل الشام والعراق واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي فعمل له كتاب (التنوير في مولد البشير النذير)، وقرأه عليه بنفسه فأجازه بألف دينار.ذكره جلال الدين السيوطي في: حسن المقصد في عمل المولد.
قال الحافظ الذهبي:كان متواضعا خيرا من الفقهاء والمحدثين السنّة.سير أعلام النبلاء، تأليف: الذهبي، 22\336.
يقول الشيخ يوسف القرضاوي عن ذكرى المولد: "إذا انتهزنا هذه الفرصة للتذكير بسيرة رسول الله ، وبشخصية هذا النبي العظيم، وبرسالته العامة الخالدة التي جعلها الله رحمة للعالمين، فأي بدعة في هذا وأية ضلالة؟. "
ويقول الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: "الاحتفال بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم نشاط اجتماعي يبتغي منه خير دينيّ، فهو كالمؤتمرات والندوات الدينية التي تعقد في هذا العصر، ولم تكن معروفة من قبل. ومن ثم لا ينطبق تعريف البدعة على الاحتفال بالمولد، كما لاينطبق على الندوات والمؤتمرات الدينية. ولكن ينبغي أن تكون هذه الاحتفالات خالية من المنكرات".
وللعلماء حول الاحتفال بذكرى المولد أقوال متضاربة ، ولكل حجته ودليله في الحظر والإباحة، وإن كنت ميالاً إلى الاحتفال؛ ولكن من غير ابتداع أو تقليد لغيرنا من الملل وإنما من خلال تذكير المسلمين بحقيقة هذا النبي الذي ينال منه بين الفينة والأخرى أناس لا يعرفونه وإنما دفعهم حقد اليهود وحسدهم المستمر إلى أن تقوم الساعة على أننا لاننكر فضل الكثير من هؤلاء الذين جعلوه في المرتبة الأولى ، وهم يتحدثون عن الرجال العظام في العالم كـ (مايكل هارت ) صاحب كتاب ( المائة الأوائل ) وهذا مع أنه مسيحي إلا أن أقر واعترف بأن محمداً هو أعظم العظماء وليس من العجب أن يقر ويعتر شخص آخر كـ(برنارد شو) " لو أن محمد بن عبد الله بيننا لحل مشكلات العالم بينما نتناول فنجانا من القهوة ". وقد أورد الإمام مسلم في صحيحه أن الله يخفف العذاب يوم الا ثنين عن أبي لهب لفرحه بحبيب الله وذلك لما بشرته الجارية(ثويبة)فأعتقها، وقد يكون هذا الفرح بحبيب الله سببا لتخفيف العذاب عنه ، والله أعلم.
وقدجاء في كتاب ( ترشيح المستفيدين) في الصفحة: (135) بعضا من أبيات تبين من خلالها فرح أبي لهب العدو اللدود للنبي بقدوم محمد وهذه هي الأبيات:
إذا كــان هذا كـــافر جـاء ذمــه*** وتبت يـداه في الجحيم مخـلدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائمــــا*** يخفف عنه للســــرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره*** بأحمد مسرورا ومات موحدا
فالحمد لله الذي بعث فينا نبينا محمداً نعمة مرسلة وهدية عامة شاملة ، فقد أرسله رحمة للعالمين{و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء 21/ 107] وجعله رحيماً بالمؤمنين خاصة{بالمؤمنين رءوف رحيم }وجعلهرحمة مهداة كما قال: في نفسه "إنما أنا رحمة مهداه".
يقول أنس بن مالك: "خدمت رسول اللهعشر سنين، فما قال لي لشيء فعلتُه، "لم فعلتَه؟"، ولا لشيء لم أفعله،"ألا فعلته؟"، وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول "دعوه فلو قُضي شيء لكان" الحديث صححه ابن تيمية في درء التعارض، ج8، ص420.
فكيف كان رحمة للعالمين؟
لو استعرضنا حياته رسول الله ؛ لوجدناها مليئة بكل خير كيف لا؟ وقد كان رحمة للناس و رحمة للمنافقين و رحمة للكافرين و رحمة للحيوان و رحمة للجماد ....و إليكم بيان ذلك:
1 - فقد كان رحمة للناس كافة....وارتفع بشريعته العقاب الذي كان يأخذه الله على من يذنب دون تأخير محولا أناسا إلى قردة و أخرَ إلى خنازير و ماسخاً آخرين يبن ذلك قول سبحانه :{ و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون}. [الأنفال:8/ ٣٣].
سبب نزول: { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
" روي أن قوماً من المؤمنين قالوا يا رسول الله بنو اسرائيل أكرم على الله منا كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه: (اجدع أنفك أو أذنك افعل كذا) فسكت رسول الله فنزلت الآية فقال: " ألا أخبركم بخير من ذلكم " وقرأ عليهم هذه الآية " عن ابن مسعود وفي ذلك تسهيل لما كان قد شدد فيه على بني إسرائيل إذ جعل الاستغفار بدلاً منه .
2-وكان رحمة للعالمين.....فقد قال الله تعالى واصفاً رسوله: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليهم ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم }[ التوبة : 9 /128] لقد خفف عن المؤمنين ما كان مرهقاً لمن سبقهم من الأمم ، إذ كان من قبلنا إذا وقعت النجاسة على يدِ أو ثوبِ أحدِهم لا يغسلها بل يجب أن يقطعها.
3- و كان رحمة للكافرين..... تذكرُ كتب السيرة ما فعل به أهل مكة فقد أهانوه وعذبوا أصحابه وحاولوا قتله ولما ذهب إلى أهل الطائف داعيا علموا غلمانهم فرموه بالحجارة حتى شج وجهه وأدموه فجاءه ملك الجبال قائلاً: أتريد أن أطبق عليهم الأخشبين (جبلان في مكة) و ما كان يصدر منه إلا " اللهم أغفر لقومي إنهم لا يعلمون إنهم لا يعلمون ",و كان يدعو لهم و يقول " بل أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً ". الحديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها ،وورد في البداية والنهاية :لابن الأثير ،ج3،ص:137.
4- وكان رحمة للمنافقين....فقد آذاه قومه كثيراً و خذلوه في مواقف الشدَّة، بحيث كانوا يخرجون الى المعارك معه ولكن قليلا وللتخذيل، ثم الانسحاب من منتصف الطريق ، ولكنه عفا عنهم حتى جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول _ وكان أبوه رأس المنافقين _ يطلب من النبي يارسول الله لو أمرتني فأضرب عنق هذا المنافق الذي هو رأس أبيه , فقال صلى الله عليه وسلم : بل نترفق به ما دام بيننافلما مات ابن سلول صلى عليه رسول اللهواستغفر له مع أن الله قال فيهم: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم , إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}[ التوبة 9/80].
5- وكان رحمة للحيوان....يقول : "إذا قتلتم فأحسنوا القتل و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح و ليُحِدَّ أحدَكُم شفرته فليرِحْ ذبيحَتهُ ", و قال "في كل كبدٍ رطبةٍ صدقةٍ"، و كان يُحَدِّثُ أصحابه عن البغيِّ التي دخلت الجنة لأنها سَقَتْ كلباً , و عن المرأة التي حبست هرة فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.... فدخلت النار" ليتعظوا، ويكونوا رحماء هذي هي مدرسة محمد .
6- وكان رحمة للجماد....فقد روي عنه : أنه لما قدم المدينة بني له منبر للخطابة... فلما ترك الجذع الذي كان يخطب عليه و تحول إلى المنبر حن له الجذع وصار يصدر أصواتا كالبكاء, فجاء رسول الله وربَّتَ بيده عليه فسكت .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم نبي الرحمة .