منذ متى وأنا أرفض تعليق صور الأحياء والأموات على جدران بيتي لأنها تسبب لي الفزع بمجرد النظر إلى عيني صاحب هذه الصورة أو تلك ؟
آه ..تذكرت متى أقلعت عن هذه العادة، منذ رفعت صور أمي وأبي المتوفيين.
فعلت ذلك بعد قراري رفع صورة (شربات) من على حائط غرفتي ، وجهدت لإخراجها من البيت كله .
(شربات) فتاة أفغانية بهية الطلة حلوة القسمات، تفيض شبابا وحيوية ، إستطاعت عدسة مصور أجنبي أن تلتقط لها صورة تاريخية أرى أنها تضاهي لوحة (الموناليزا) ، مع الفارق الكبير بين الصورتين( فالموناليزا) رسمت بفرشاة دافنشي وشربات إلتقطتها عدسة مصور بارع جعلت منها إنموذجا يحلم بتجسيده كثير من الرسامين.
كان ذلك المصور الفوتوغرافي قد نال جوائز عديدة عن تلك الصورة الفريدة التي إلتقطها لفتاة فائقة الجمال ،كانت تقف ضمن عدد كبير من الفتيات اللواتي كن يتابعنه بدهشة وهو يلتقط الصور للأطفال والشيوخ والباعة المتجولين ويصور كل مايشاهده من مناظر لم تألفها عيناه من قبل ، إلى أن سقط بصره على (شربات) فمنحها الخلود من خلال لقطة عبقرية نادرة .
ثم تمر السنون ويعود المصور ذاته إلى أفغانستان باحثاعن (شربات) تلك الفتاة المشعة، صاحبة العينين المبهرتين، ليعثر عليها أخيرا من خلال بصمة العين .
كانت حينها قد فقدت ذلك الجمال البهي الذي ألهم الفنانين ، داهمها الزمن برسوم أخرى في الوجه والعنق وتحت العينين ،أضحت عجوزا متغضنة ،باهتة النظرات ، كسيرة الظهر لكنه لم يضييع فرصة إلتقاط عدة صور لإمرأة كانت ، ذات زمن ، أميرة للجمال .
وهكذا نشرت صورتها وهي شابة جنبا إلى جنب مع صورتها وهي عجوز ،لكن الفنانين ظلوا مخلصين( لشربات) الملهمة فمنحوها شبابا خالدا كما اشتهوه ، لكن ما حكاية شربات ؟
إبني رسام موهوب يهوى تقليد اللوحات العالمية وقد شاء القدر أن تقع عيناه على المجلة التي نشرت صور (شربات) وحكايتها مع المصور الأمريكي ، وبالطبع قام برسمها ومنحها نفس النظرة التي تميز لوحة( الموناليزا) ، تلك النظرة التي تشعرك بأنها تنظر إليك أينما كنت وأنى توجهت ، تظل تمعن النظر إليك بعناد .
حتى ذلك اليوم كانت الأمور تسير على مايرام ، لكننا قمنا بإستئجار شقة جديدة أكبر مساحة من الشقة التي نسكنها فأوصيت إبني أن يرسم عددا من اللوحات العالمية
لنزين بها جدران الصالة الكبيرة ، وبالفعل قام برسم عدد من اللوحات لكبارالفنانين مثل(ديفيد روبرتس) و(ستيف هانكز) و( ساره مون)، مما جعلني أضطر لنقل لوحة (شربات ) إلى غرفة نومي ، لأنها لاتنسجم مع نمط اللوحات التي رسمها ولدي.
زينت اللوحة أحد جدران غرفتي العارية ،فأدخلت على قلبي السرور،لكني كنت أعاني من الخوف عند النظر إلى عينيها خاصة في غياب زوجي ، ولا أعرف لماذا باتت فكرة (التلبس) التي أسمع عنها وأشاهدها في الأفلام تداعبني ،بل تعبث بي ،لاسيما حين أفكر في أنها ربما تكون الآن مجرد روح هائمة تبحث عن جسد يحتويها ، لأن صورتها الأخيرة كانت تدل على إنها تجاوزت السبعين، وبما أن المجلة قديمة فربما تكون صاحبة هذه الصورة قد ماتت بالفعل ،المهم أنني أقنعت نفسي بهذا الإحتمال وصرت أتحاشى النظر إلى عينيها خشية أن تتلبسني ، وحتى أتخلص من هذا الهاجس المفزع قررت أن أتخلص من هذه الصورة نهائيا، فطلبت من إبني بيعها وقد تم لي ما أردت .
تخلصت من لوحة (شربات) التي أحببتها كثيرا وكنت أفتخر بإبني وأثني عليه لأنه استطاع أن يرسمها بهذه البراعة التي تصل إلى حد التطابق مع الصورة الأصلية.
لا أنكر بأنني ترددت كثيرا قبل أن أتخذ قرار إقصاء (شربات) ، لكنني صرت أكثر ارتياحا بعد أن تخلصت من هاجس الخوف الذي كان يتملكني ،وليس هذا فحسب، بل قمت برفع جميع الصور الشخصية والبورتريهات التي رسمها إبني كي أنعم بالسعادة أو براحة البال .
لاأعرف كيف جذبتني إليها مساء ليلة باردة ،كنت أتدثر تحت غطاء سميك لأشعر بالدفء ،درجة حرارتي مرتفعة بعض الشئ ، وجسدي يعاني من إرتعاشة خفيفة.
صوبت نظري إلى عينيها فوجدتها تتطلع إلي بنظرة حادة ،أشحت بوجهي لكني وجدت نفسي مدفوعة للنظر صوب وجهها الذي يحمل فتنة النساء اللواتي كن يعشن في أربعينيات القرن العشرين ..تفرست في وجهها الشاحب فبدا لي أن ابنتي الصغرى تشبه جدتها إلى حد كبير ، وهذا مالم ألحظه من قبل .
إمرأة جميلة تتسم بأنفة الأثرياء ، عيناها الكحيلتان تتمتعان بحدة عيني صقر، لاحظت ذلك وأنا أتطلع إليهما ، فهما تشبهان إلى حد كبير عيني زوجي ، ولاحظت أيضا أنها تحدق بي بنفس الصرامة التي يحدق بها حين يكون غاضبا، لكن ماسبب غضبها وما الذي تريده مني هذه المرأة المتوفية منذ ستين عاما، ومن ذا الذي وضع صورتها في غرفتي دون مشورتي ؟
كنت مستاءة جدا ، عازمة على إخراج هذه الصورة خارج نطاق حجرتي ،بل وإلقائها خارج البيت كله كما فعلت مع لوحة (شربات) ،لكنني كنت عاجزة عن النهوض ،أقاوم شعورا بات يربكني .
ليتني لم أفرط (بشربات) ،لو أنني لم أتخل عن تلك الفتاة الوديعة المسالمة ، لما حلت محلها هذه المرأة الصارمة ..المتشبثة بالحياة .
الآن أستطيع أن أخمن من الذي زرع هذه الصورة على الجدار المقابل لسرير نومي، إنه زوجي ..الطفل الذي لم يشبع من حضن أمه، ولا يمكنه تذكر ملامحها إلا من خلال هذه الصورة لأنها ماتت وهو لما يزل طفلا لايتجاوز السادسة من العمر،وهذه الصورة هي آخر صورة ألتقطت لها قبل وفاتها بعدة شهور .
لم أنعم بالراحة في تلك الليلة الطويلة ، تنازعتني الكوابيس والأحلام التي لاأتذكر منها إلا شيئا واحدا فقط:
كنت أحدق في عيني المرأة التي كانت ترمقني بشراسة أزعجتني ،مما دفعني إلى الرد عليها بالطريقة ذاتها ، أظن إن درجة حرارتي إرتفعت حينها إلى حد إحساسي أني بت أتصبب عرقا ، وبينما كنت أصغي إلى لهاثي المتقطع وأجاهد من أجل إزاحة الغطاء عن جسدي المحموم ، رأيت دخانا أزرق ينبثق من كل فتحة من فتحات رأسها الصغير .. من عينيها ومنخريها ..من فمها وأذنيها ،إنطلق الدخان كثيفا ليسبح في فضاء الغرفة ثم يتماوج صعودا ونزولا في حركة حلزونية أشبه برقصة شيطانية يصدر عنها هسيسا مرعبا أسقطني في جب الخوف .
رفضت الإستسلام .. تابعت المشهد بصمت ،كان الدخان يتشكل وينهدم.. ينفصم ويلتحم متخذا في النهاية هيئة جسد غير مكتمل ، يحمل ملامح المرأة التي في الصورة.
نظرت إلي شذرا ثم إنقضت علي كما الوحش ، فاشتبكت معها في معركة أنا الخاسرة فيها وفقا لموازين القوى، كانت تتمتع بطاقة خارقة رغم عجزها عن الإكتمال ،وأنا أعاني من قصور في التنفس وإنعدام التوازن وضعف في الأداء .
لا أعرف ما الذي حدث ، ربما انتصرت علي ، وربما أكون قد هزمتها رغم ضعفي ، لكنني على يقين بأن شيئا ما حدث جعلني أختلف عما كنت عليه في السابق .
تصاعدت حدة الخلافات مع زوجي خلال الأيام التالية ،لاأعرف مالذي دهاه، رغم أني كرست له جل وقتي ،وتفانيت في خدمته ، حتى أنني لم أعد أمارس هواياتي ،وما اهتممت بأحد سواه،أما أولادي فلقد فتر إهتمامي بهم، لأني حشدت مشاعري كلها نحوه .. صرت أحنو عليه ، وأرعاه بقلب أم رؤوم إعتزلت الدنيا لتحيا من أجله .
كنت أوبخه أحيانا وأنعته بالطفل لأنه يرفض رفع صورة والدته من على حائط غرفتي ، فيصرخ في وجهي .. أنت مريضة تخافين الأموات وكأنك ستعيشين أبدا،
إتق الله إنها أمي ، لماذا تريدين أن تحرمينني منها ،إنها صورة .. مجرد صورة فدعيها بسلام .
هي ليست صورة .. إنها كائن يسكنني .. كائن لا أعرف من أين أتى، لكنه غريم أقض مضجعي وعكر صفو أيامي ، معاركي معه ما توقفت لحظة واحدة ، لأنه ناضل من أجل إزاحتي وطردي من جسدي الذي يريد أن يستحوذ عليه بالكامل ، وأنا أستبسلت كي أسترجع حقي في امتلاك هذا الجسد الذي يخصني وحدي حتى وهو تحت طائلة الإغتصاب .
النتيجة أنني خسرت الحرب كلها ،بعد أن حققت نجاحات محدودة في المعارك المتفرقة مع متلبستي ،خسرت الحرب في الجبهة الرئيسية مع زوجي .
لقد قرر هجري منذ تخليت له عن سرير نومي ،وإمتنعت عن إستئناف حياتي الزوجية معه البتة !
هذا هو يوم سعدي فقد تسمرت عند قراءة القصة وظللت أتابع الوصف الدقيق لما يجول في نفس الكاتبة وكنت أظن أنها صنعت الوصف داخل معامل خيالها وظللت أسترجع أحداثا سابقة وأقول في نفسي هل يتلبس الإنسان غيره هل تحل في جسده روح أخرى فأنا رغم محبتي للصور وأجمع الكثير منها منذ سنوات طويلة لم أمر بهذه الحالة . المهم عندما أكملت قراءة القصة وأعدت النظر ثانية فيها علـّي ألتقط ذرات غبار فخرجت صفر اليدين وأنا موقن أنها من صنع خيال الرائعة سولاف هلال فإذا بي أقف مباشرة أمام الصورة التي رسمت في القصة وكأن عيني شربات تنظر شزرا إلي وتقول لي ألم تصدق أني أتلبس من يحدق في عيني فنسخت الصورة للاحتفاظ بها دون أن أنظر إلى العينين الساحرتين وخرجت هاربا من المكان خوفا من حالات التلبس
القاصة القديرة سولاف هلال شكرا لك من القلب وباقات ورد معطرة بتقديري واحترامي وإعجابي