الموعد
في تمام الساعة الخامسة ومع شقشقة الضو من صباح يوم الجمعة ، شقت عنان السماء أربع طلقات من بارودة صيد ، مزقت الصمت الذي يخيم على القرية في مثل هذا التوقيت ، وتبعتها ولاويل وصرخات نساء من جهة الحارة الشرقية من القرية .
- خير إنشاء الله يا بو إبراهيم مين قولك مات ؟
سأل أبو أحمد الذي كان يسوق أغنامه إلى المرعى .
- عم يقولوا أبو صالح إسماعيل عطاك عمرو ، أجاب أبو إبراهيم الذي كان يقف على باب داره .
- شو هالحكي يازلمي ؟ علق أبو أحمد على الخبرية
- والله هيك عم يقولوا
شغله متل الكذب يا رجل ، والله الجماعة ما كذبوا خبر ....عملوها ..... شي بيوقف شعر الراس مين كلن مصدق هالحكاية ، قال أبو احمد؟
- سيدي العمر الكم ، الله يرحمو ويعفي عنو ، ماحدا مخلد بهالدنيا ، وماحدا بيعرف أيمت دورو .... اليوم راح أبو صالح ، بكرة نحنا .... والحبل ع الجرار .... أجاب أبو احمد .
مسكين يا بو صالح ، لك نيلوا عهالموتة الله يطعمنا إياها ، علق أبو إبراهيم وهو يغلق باب بيته الخشبي ... بينما تابع أبو احمد يسوق أغنامه ، وهو يتمتم .... دنيا فانية .
سرى الخبر في القرية ، سريان النار في الهشيم ، وتناقل الناس خبر وفاة أبو صالح ، باندهاش واستغراب عظيمين .
ذلك إن قصة وفاة أبو صالح فريدة في توقيتها ، وتدخل في سياق قصص الخيال ، وهي الأولى من نوعها في القرية .
المرحوم أبو صالح رجل ستيني ، صحته جيدة ولم يكن يشكو من أية أمراض مستعصية ، مربوع القامة ، غزا الشيب ما تبقى من شعر رأسه ، بشوش دائم الابتسامة .
انهي حياته الوظيفية بحصيلة مادية لا بأس بها انعكست إيجابا ،على حياته وحياة عائلته.
استطاع إن يبني له بيتا ، وكان من أوائل البيوت الإسمنتية في القرية ، وكان الناس يشيرون لها بعمارة أبو صالح ، بالرغم من أنها عبارة عن شقة سكنية عادية ، تتألف من ثلاث غرف مع منافع، تحيط بها قطعة أرض صغيرة زرعها بكل ما تشتهي النفس من خضروات وورود .
قبل عام من وفاة أبو صالح اقتطع من واجهة ارض بيته قطعة صغيرة ، بنى عليها دكانا صغيرا ، يبيع فيه الخضار والفواكه وبعض المواد الغذائية ، ومواد التنظيف وما إلى ذلك من الاحتياجات الاستهلاكية للجيران ، واقتنى له دراجة عادية ، يركبها يوميا ، في مشوار صباحي لشراء حاجيات الدكان واستطلاع حالة السوق ، وكان بنفس الوقت يعتبر هذا المشوار على الدراجة رياضة صباحية ، تساعده في الحفاظ على لياقته الجسدية وتنشيط دورته الدموية .
الحق يقال كان أبو صالح شخصية محبوبة ومرحة ، وعلاقاته مع المحيطين به والمتعاملين معه ممتازة ،وكان لا يكف عن تبادل النكات مع أقرانه من الدكنجية .
كان يجعل من كل دكان يدخله في السوق محطة للاستراحة ، وتبادل الأخبار ، والاطلاع على حركة السوق ، والأسعار ، وحالة الزبائن ، وقضية الديون التي تقلق كل أصحاب الدكاكين في القرية ، فهناك من يستجر حاجاته ويدفع في أخر الشهر ع الراتب ، ومنهم من يستدين على الموسم وهذه حال كل الزبائن في القرية, فنادرا ما تجد من يشتري نقدا
هناك مثل في القرية يقول :" يا رايح كتر ملايح "، وهذا المثل ينطبق على أبو صالح وخاصة في الفترة الأخيرة ، فلم يتعمد إزعاج احد ، ولم يتشاكل مع احد ، ولم يرد طلب زبون حتى لو كان بالديّن .
هب أبو صالح من نومه مذعورا في الرابعة من صباح يوم الثلاثاء ، وانقض على كأس الماء الذي اعتادت أم صالح أن تضعه إلى جانبه يوميا ، وعبه دفعة واحدة ،و وراح يبسمل ويحوقل ، ويتلو بعض ما توارد إلى ذهنه من آيات الذكر الحكيم ، ويستغفر ربه ، ويطلب الرحمة والمغفرة .
استيقظت أم صالح مرعوبة ، على حركاته وتمتماته ، ووقع نظرها على وجه أبو صالح الأصفر ، وعلى جسده الذي يرتعد .
- خير إنشاء الله يابو صالح والله اقطعتللي قلبي ؟
- ما في شي يا حرمه ، إنشاء الله خير ، ارجعي نامي
- كيف بدي نام يا زلمي وأنت ع هالحالة ، خبرني شو القصة ؟ بيوجعك شي ؟
- ما في شي مجرد كابوس ، منام مزعج شوي .
- خير اللهم اجعلو خير ، شو هالحلم يابو صالح ، احكي لي .
- رح احكي لك ، بس طولي بالك علي شوي ، لأخد نفس ويهدا جسمي .
- هات لشوف احكي ... ألحت أم صالح .
- القصة إني حلمت : وأنا وقاعد ورا طاولة الدكان ، دخل لعندي ، أبو فؤاد ، وأبو محمود ، وأبو اسعد ، والتلاتة متل ما بتعرفي كلون مرحومين ، وكانوا لابسين أبيض بأبيض ، وعم يشع النور من وجوههم ، رحبت فيّون ، وقلت لهم تفضلوا استريحوا.
- فأجابوا : نحن مستعجلين يابو صالح بس جايين نخبر انو أبو مصطفى زهرة بدو اياك تروح لعندو الساعة خمسة يوم الجمعة ، وتلاشوا من قدامي بدون أي كلمة .
أبو مصطفى زهرة من كان من أصدقاء أبو صالح الحميمين ، وصديق طفولة ، وكان قد توفي بدون سابق إنذار منذ عشر سنوات ، وبقيت ذكراه عالقة بذهن ووجدان أبو صالح .
- شو قولك يا أم صالح ، والله فقت مرعوب ، وريقي ناشف ، هاتي ناوليني كاسة مي تانية خليني بل ريقي .
هرولت أم صالح وأحضرت كأسا من الماء ، فتجرعه دفعة واحدة وهو لا يزال يلهث ، كمن انتهى لتوه من سباق طويل ومجهد .
- صلي ع النبي يا زلمي ، وخلي إيمانك بالله كبير .
- ونعم بالله يا أم صالح .... ما بيصير غير اللي كاتبو الله
بزغت الشمس ولم يغمض لأم صالح جفن ، وطيلة هذه الفترة وهي تحاول جاهدة أن تهدئ من روع أبو صالح ، وتقلل من أهمية الموضوع ،وتضرب له الأمثلة عن ناس حلموا مثل هذه الأحلام ومازالوا أحياء يرزقون .
- جارتنا أم محمد شافت أمّا بالمنام ، وراحت معا مشوار ، وقالت يوما إنها بدا تموت ، وليكا لهلق عايشه ..... وفلان ... وفلان ... وغيرو و غيراتو شافوا هيك منامات ، وما شفنا حدا مات لهلق . ما حدا بيموت غير بوقتو ، طمّن بالك ، وأنسى الموضوع .
كل هذا وأبو صالح يهز برأسه موافقا ، محاولا مجاراتها بأفكارها ، وإقناع نفسه بأنها مجرد أضغاث أحلام .
لكن في الحقيقة كان الموعد الذي ضربوه قد بدا يدخل الرعب إلى قلب أبو صالح وأم صالح معا .
بدأ القلق والارتباك يظهر على تصرفات أبو صالح ، وبدأ يعد الثواني والدقائق والساعات ، وبدأ لأول مرة يشعر بان الوقت يمضي سريعا ، بعدما اعتاد العيش بهدوء ، والتصرف على أساس الوفرة من الوقت في كل الأحوال .
غادر أبو صالح فراشه ، وارتدى ملابسه بهدوء ، وتوجه إلى الدكان ، رفع الغلق محاولا تسلية نفسه ليهرب من تداعيات الكابوس ، نظف أرضية الدكان ، رش الماء ، وضع إبريق المته على الغاز ، ولكن عبثا كان يحاول ، فكل شيء كان يذكره بالموعد ، وأصبح الزمن ناقوسا مزعجا يدق فوق رأسه ، ورعبا حقيقيا يقض مضجعه .
بدأ الماء يغلي ، ولم ينتبه أبو صالح ، قام عن كرسيه ، أطفأ الغاز ، وسحب غلق الدكان وركب دراجته كما جرت العادة لديه لكن هذا اليوم بالذات كان هروبا إلى الأمام من شيء ما بدأ يلاحقه ، انه الموعد .
مر بالسوق مرور الكرام ، حتى أنه لم يسأل أحدا أي سؤال ولم يشتر أي غرض ، عاد أدراجه إلى الدكان ، ليجد مجموعة من النسوة اللاتي اعتدن شراء ما يلزمهن من أغراض وخضروات ، يقفن مع أم صالح وهي تقص عليهن الحلم .
كان البعض منهن يقللن من أهمية الحدث ، ويعلقن : لو كان كل واحد شاف منام وتحقق كانت الدنيا خربت
- صباح الخير أبو صالح .... شو وين الخضرة ؟ سالت إحداهن
- والله اليوم تأخرت ع السوق ... أجاب أبو صالح
- تأخرت ع السوق ولا خايف يا أبو صالح .... علقت أخرى بخبث
- خايف من شو ؟
- أم صالح حكت لنا حكاية المنام ، وشايفين انك أخد الأمور جد .
- كلو حكي بحكي .... يمكن لا نو كان عشا أم صالح تقيل شوي ... علق أبو صالح
اقنع أبو صالح النسوة بعدم الاهتمام ، وانفرط عقدهن وبقي مع أم صالح بالدكان .
- كان ضروري تحكي للنسوان يا أم صالح ... ما بتعرفي النسوان متل الغربال ما بينعطوا سر
- لأني شفتك مزعوج واخد الأمور بجد أجابت أم صالح .
مضى اليوم الأول ثقيلا ، وأبو صالح لا يزال يعيش الكابوس ، ويعايش وجوه زوار الحلم ويتذكر تفاصيل وجوههم وصرامتها ، كان الحلم ساطعا كأنه تم في وضح النهار .
في اليوم التالي هتفت أم صالح لأولادها وأقرباء أبو صالح داعية إياهم إلى الحضور إلى القرية يوم الخميس والجمعة .
من كان منهم قريبا لبى الدعوة ، والبعض الأخر اعتذر .
على مائدة العشاء ليلة الخميس ، اجتمع الأهل ، ودارت أحاديث متنوعة ، حول مصاعب الحياة ، وتربية الأولاد ، وبعض المشاكل الاجتماعية والمعيشية ، ولم تتعد مشاركة أبو صالح على الموافقة أحيانا والابتسامة الباردة أحيانا أخرى .
تجنب أبو صالح الدخول في موضوع الحلم ، وترك الأمر إلى أم صالح التي لم تخيّب ظنه وانبرت تقص تفاصيل الحلم الكابوس ، وردّات فعل أبو صالح على الموضوع مع شوية بهارات .
وأضافت أم صالح بان الحلم كان وراء دعوتها لهم ، بناءا على طلب أبو صالح .
ضحك البعض ، واندهش البعض الأخر ، ومنهم من اهتم بالموضوع، وعلق بعضهم بتحبب وراح يسال أبو صالح عما إذ كان يرغب بوصية ما .
- ولو يا أبو صالح كبر عقلك .... معقول هالشي .... ومعقول تخاف من هيك منام ، قالت زوجة أخيه التي تعيش بالمدينة ، والتي قطعت صلتها بالقرية وتقاليدها
- مين قلك أنا خايف ... أجاب أبو صالح
- أي شايفتك مو على بعضك ، موهدا أبو صالح اللي منعرفو
- عادية أنا شوي تعبان .. ختم أبو صالح .
بعد منتصف الليل انفرط عقد العائلة ، بعد إن اشبعوا الموضوع مناقشة وتحليلا ، وكل ذهب إلى غرفة نومه ، بعد أن تمنوا لأبو صالح ليلة هادئة بعيدة عن الكوابيس .
أم صالح وضعت نصب عينيها أن تحي الليل بطوله إلى جانب أبو صالح .
استلقى أبو صالح على فراشه ، بينما ذهبت أم صالح كعادتها لتحضر كاس الماء ، وتبحث في زوايا خزانتها عن بعض الأشياء التي تسليها ، وتشغل بها وقتها في تلك الليلة الموعودة .
كان أبو صالح في قرارة نفسه واثقا من إن شيئا ما سيحصل ، وضع أبو صالح رأسه على مخدته واستدار إلى الحائط ، وبدأ بتلاوة ما توارد إلى ذهنه من آيات الذكر الحكيم ، والدعاء للباري إن يستر أخرته .
من جانب أخر جلست أم صالح إلى جانبه تسلي نفسها ببعض أعمال الخياطة والتطريز >
تحسس أبو صالح بيده كاس الماء وقال :
- تصبحي على خير يا أم صالح ، شو ما بدك تنامي ؟
- وأنت بخير ، عندي شوية شغلات رح خلصهم ونام
- على خير إنشاء الله ، لا تنسي تطفي الضو ، بس تنامي .
- طيب أبو صالح ، طيب
بدأت الساعة تقترب من الرابعة والنصف صباحا ، ولا تزال أم صالح تغالب النوم ، فتارة يغلبها وتارة تتغلب عليه بالدندنة ، والنظر إلى أبو صالح ، لكي تتحقق من أنه ما زال على قيد الحياة ، بدأ أبو صالح يغط في نومه ، وكان هذا مثار ارتياح لا م صالح .
لكن كما يقول المثل : النوم سلطان . فعندما يهجم ملك النوم لا يستطيع احد إن يرده .
لم تدر أم صالح كيف سرقها النوم ومالت برأسها إلى " مخدة السند " ، لتنتفض بعد فترة وجيزة من غفوتها مذعورة ، وألقت بنظراتها على وجه أبو صالح الذي بدا وكأنه يغط في نوم عميق.
مدت يدها تتحسس يد أبو صالح ، وحانت منها التفاتة إلى ساعة الحائط التي كانت تشير إلى الخامسة وخمسة دقائق ، كانت يد أبو صالح باردة كالثلج ، هزته بعنف وخوف ، ونادت ... أبو صالح .... أبو صالح ... لكن لا حياة لمن تنادي ، فقد كان أبو صالح جثة هامدة ، اسلم الروح لباريها في الموعد المحدد .
شقت صرخات أم صالح سكون الليل ، لتعلن نبأ وفاة أبو صالح ، وان زواره في الحلم لم يخلفوا موعدهم .
هب كل من في البيت مذعورا ، واندفعوا إلى غرفة اب,صالح ، ليتأكدوا بأم أعينهم بان أبو صالح قد غادرهم مع زواره ، ملبيا دعوة الحق .