قصة قصيرة
بزهوٍ يغادرها الحريق مكللاً أتونه بأندحاري ، منكسراً يخلفني على مقربة من شوائها ، أنظر الرماد المتراكم في مجمرة المشفى ، وألغو بهذاء راح يتمطى في ذاكرةٍ كانت تلطّف قيامة النار في جسدي وتعطف على موت مجاني لي ، موت حلَّ ذات كارثة بي أو بها لا أعلم .. حدث ذلك في شتاء عاد بي لخريف حل على ناصية حياتي كالجحيم ، شتاء حرَّضها على الغياب وحرضني على الجنون لأستصرخ من لا شأن لهم :
هل ماتت؟
ستموت إن لم يسعفها الأوكسجين.
وامها؟
ماتت وكذلك اخوها لقد وضعا حداً لعذابهما الأبدي.
تحجرت مفاصل الزمان وأنا أصغي بارتباك لحوار الموت في مشفى تناثرت فيه ذكرياتي بين ردهة للحروق في ذاكرتها وغرفة للنوم في ذاكرتي ، ذاكرتي التي هي الآن منفلتةً اكثر من أي وقت مضى امام جسد ٍ يحمل رائحة البرتقال ..
هل أنت زوجها؟
لا
إذن أنت شقيقها؟
كلا
غادر الردهة في الحال ، ليس من اللائق أن ترافق فتاة لا تعرفها.
غابت الردهة في صمت عكسته ُ الأنوار الخافتة والملاءات المتسخه وتسامت فجأة في الفضاء رائحة نفدت إلى روحي لتعيد برتابة الظلام صوت فيروز الجميل ..
شايف البحر شوكبير.. كبر البحر بحبك.. شايف السما ..
هل تحبني؟
احبكِ ..
هل تعلم ؟ أن الرجال في نظري رجال أما أنت فشيء آخر.
وكذلك أنتِ شيء آخـر.
ثم عادت تجرجر جسدها المليء بالتضاريس صوب سهولي وتغمرني بدفء وتقول ..
لماذا أنت بعيد هناك ، تعال .. تعال ..
اعتدلت ملبياً نداءها القريب وتقدمت فاستوقفني شرطي الردهة ..
إلى أين؟
إليها قلت !
لن يسرك منظرها الجديد فالنارقد شوهتها تماماً.
اقعيت يائساً على بلاط الردهة البارد مطرقاً في بابها الموصود حتى تسلل صوتها ثانية ..
لم لا تدخل ، لقد تركت لك الباب موارباً ..
سادخل .. لكن المصباح
هشمهُ..! قالت ..
هشمته فرانت عتمة أبدية في فضاء الردهة ، تأملت وجهها المضيىء في الظلام ، كان الرماد جميلاً على وجهها.
ماذا فعلت يا مجنون ، لقد هشمت مصباح الردهة ، قال الشرطي وهو يجرجر جسدي ويتغابى عن رنين صوتها المدويّ في رأسي.
لم َلا تدخل.. لقد فتحت لك الباب.
إنفلت من قبضة الشرطي و دفعت الباب بقوة ، دخلت الردهة وأرخيت رأسي المتهالك
إن أنفاسها تتعالى يا دكتور
أعلم - قال الطبيب - إن الدماغ بحاجة للهواء
لأفتح النافذة.
افتحها فالأعمار بيد الله.
فتحتها فاحتشدت الأضواء بغتةً في غرفة النوم وشع صوتها ناعماً من هناك ..
ماذا فعلت .. أغلقها إن الجو بارد وأنا نصف عارية ..
تمعنت بها ، كانت عارية إلا مني ، متكورة كالحياة ومتقدة كالجمر على سرير نومها الوردي.
انظر! - قالت - نظرت فأشارت بأناملها البضة إلى القمر الفضي و قالت.
في الغياب ستجدني هناك أرسم برماد القلب الذي احترق مأوى يأوينا بعد الموت ..
رفعتُ رأسها بحنوٍ وضممتهُ بحنان إلى صدري ، فأيقظني صوت المضمد وهو يغلق النافذة ..
لماذا فتحت النافذة إن الجو ملوث وجروحها متقيحة ، سوف تتسمم.
شرع المضمد يسلخ بمشرط أعمى جلدها المحروق ويرميه بسلة المهملات .. تهاديت على سرير فارغ أشاهد فاجعتي واراقب بوجع ما يجري ..
مهزلة ان تنتهي أحلامنا هكذا ..
كان المشرط ينغز في جسدي وكان الأنين يدوي في رأسي وكان صوتها الساحر ينساب بارداً كالفجر :
لا تنمْ أن الفجر بعيد ، هيا افتح أزرار القميص وابسط كفيك على فخذي وأشعل السيجارة .. فعلت مثلما أمرت وراقبتها بحزنٍ ، كانت تطفيء في صدري جمرتها ناخرةً لها في موضع القلب ندبةً لا تندمل ابداً ، ندبة على نارها انتبهت فقلت : آلمتكِ ؟
قالت : آلمتكَ ؟
رجرج المضمد ذاكرة المشفى النائمة في هذياني الخدر وأيقظ نداؤه المشؤوم سبات أعضائها المتراخية تحت ملاءة الموت صائحاً :
لقد انقلب بؤبؤ العين والدماغ على وشك الموت.
أعلم .. إجابه الطبيب ، فالأوكسجين شارف على النفاد.
ردد احد المرافقين في ردهة الحروق ..
إن الآجال تدنو والصبر مفتاح الفر .....
تفتقت ذاكرتي وانا أصغي بارتباك لوقع خطى الموت في رأسها ، ووقع عدوه المرعب في قلبي ، كدت أجن من الروع فقالت :
لا تخف ، أنا لن أموت فأنت لي حياة أخرى ، يمكنني العيش بها مرات و مرات ثم أضافت :
أنا لك أو للترا ......
كممت فمها بفمي وبكيت ، بكيتُ عليها في الردهة ، و بكتْ في غرفة النوم فأمتدت كفاي المرتعشتان لوجنتيها الملتهبتين ، كان دمعها دبقاً كالعسل.
قلت .. عسل .. دعيني أقبلك من عينيك.
قالت : لا..لا.. لاتفعل إنها إشارة للوداع وفأل سيء .. هكذا تقول أمي .. ثم ركضت ، ينبض في
قلبي قبلها وتلهث رئتانا سويةً.
ركضتُ وركضَ الطبيبُ يتبعهُ المضمد الذي كان يدفع عربةً لها قرقعةً كالاحتضار، توقفا عند سريرها الأبيض في الردهة وخلعا معا كمامة الأوكسجين عن وجهها الجميل ، إنتصبتُ بذاكرة سائلة مستحيلاً لقوام منخور لا يتساوق مع قامة جمرها فأدركت ان قيامة النار قد حلت في جسدها ، جثوت على ركبتي يائسًا وسألت الطبيب بانكسار :
ماالعمل يا دكتور؟
أن الحال يتوعد بالزوال والدماغ يحتضر.. قال الطبيب ..
إلتزم الطبيب الصمت تماماً وتلاشت القرقعة المشؤومة ليحل محلها رجع صوتها الأخير ....
إتلُ عليّ ما كتبت فأنا في شوق لسماعك دائماً ...
إمنحيني من نارك ناراً ألطّفُ بها صخور الحزن ، واغرسي بي من جمرك شارة الجمرِ قبل الزوال ..
صفقَتْ بفرحٍ لاحَ على سحنتها السمراء وصَفقْتُ على وجهي حين جاء الوعد المصمم على غيابها قاسياً يرنَّ في رأسي كالأجراس ..
لقد أزفت الساعة ، افتحوا الأبواب والنوافذ ، قال مَن لاأراه
فتح المضمد باب الردهة وفتح الطبيب باب الغرفة وفتح من لا اعرفه جميع النوافذ، دخل الهواء وتسريت روحه الباردة إلى جسدها المستعر، ارتعشتْ من البرد الغازي وبوجع تململت حنجرتها المحروقة مستجيرةً بيّ
لم أنت بعيداً هكذا ؟ تعال ، ان برودة البلاط تتسلق من قوائم السري ر إلى جسدي الملتهب ، أنني أتألم ، أتألم.
اقتربتُ منها فأحتوتْ ذراعاها الرحيمتان جسدي الضئيل ، ضمتني بقوةٍ إلى صدرها المحترقْ فبكيت ،
لا تبكِ - قالت - لقد عطَّرت لك المنديل برائحتي .. تشممهُ بقوةٍ إنه للذكرى وللذكرى فقط !.
رفعت المنديل إلى وجهي وأخذت أتشممهُ حتى استشرتْ في دمي رائحة البرتقال بشدة ، ارتعدت من ضوع رائحتها المباغت في أوصالي وأدركت ان الأجل الأسود قد حان ، صرختُ بالمضمد الذي تغابى عن حضوري :
هل ماتت؟
قطع المضمد صرختي بالديتول ثم تظاهر بالصمم وهو يرش بلاط غرفتها بالسم.
فَحّتْ رائحةُ الموتِ وسَمتْ رائحةُ البرتقال واختلطتْ الروائحُ في رأسي حين أعلن الطبيب بصوت قاصـم
ماتت.
قال وهو يواري بجسده النحيل وجهها الأسمرعني ...
ماتت..! قالت أختها وهي تغطي وجهها بالملاءة المرقشة برمادها الجميل .
ماتت ..! قالت امرأة تتشح ببياض ناصع ، يرافقها رجل لا اعرفه قال ببرود مميت
ماتت.. هل أنت زوجها؟
!........................
إذن أنت شقيقها؟
!.......................
غادر الردهة في الحال، ليس من اللائق، أن تبكي على فتاة ،لا تعرفها
يشرفني أن أكون أول المصافحين .. لأول نص ينشر للأستاذ قاسم فنجان هنا في نبعنا الغالي
فتحية متوهجة وملونة تيلق بك أستاذنا الكريم.
ألأنين المنبعث من وجع النص .. هدهدته لغة باذخة الأناقة ، وصياغة محترف ..
حتى صار لحناً مرتكزاً على إيقاع نبض القلب الخافق ..
وزينته السكتتان الموسيقيتان المرسومتان كعلامات تعجب تشسي باندهاش وإنكار واسى .. في آخر النص.
لابد من وضع بصمة إعجاب.
يثبّـــت
عبرت فأجدت التعبيرعن غصة اعتلت المشاعر فطفى على سطح المعاني اليأس .. صرخات ارتسمت على شفاه باردة رغم حرارة الجسد.. مبللة بدموع تأرجحت حسب حالة القرب والفراق .. رابط قوي استطعت ان تعكسه من خلال مدلولات النص الذي جاء محكم البناء والحبكة كانت مميزة لعب الكاتب على مدلول كلمة "النار" بطريقة رائعة حسب موقعها في النص .. فكانت تارة باردة مسالمة ومحببة .. وأخرى مشتعلة محرقة .. ليوصل لنا فكرته من خلال مشاهد مختلفة التقت في كلمة واحدة .. تسلسل عذب في السرد يشد القارئ حتى نقطة الختام ..حيث جاءت القفلة رائعة رغم السواد .. نص مفعم بالجمال .. معبِّر وموجع في الوقت نفسه حمل رسائل منوعة ..
الراقي قاسم فنجان أهلا وسهلا بك وبقلمك الرائع .. وأهلا بحروفك المتألقة .. تقديري ولقلمك السامق مع بيادر من الياسمين الدمشقي
ها اني تجولت في فضاء القصة رغم بنيانها الصلب والمتماسك ...اشتنشقت الشعر قبل السرد وحلقت بعالم الصور وتابعت ثيمتها بانشداد وترقب...ودارت دمعة في المحاجر لتندلق بنهاية القصة .....قصة محكمة تمتلك كل مقومات القص....احببت قلمك ياقاسم ...حقا احببته مثلما احببت قصتك هذه
أيتها السفانة الرائعة: ماينتظره أي كاتب دائما هو حلول قارئ حكيم ذا حظوة غيبية يمس المستحيل المكنون في النص حتى يتجلى له الوجع جميلاً كالرماد الذي خضب وجه حبيبتي حينما أعلنت النار قيامتها على عشقي ! أيتها السفانة المبدعة تقاطرت كلماتك الساحرة بعسلها في قارورة قلبي وأحالتني في غفلة من النار الى جليد يتسلقني صقيعه لأرتعش إجلالاً لقراءتك المضيئة !
حمامة النبع الرقيقة هذه قيامتي ، على مقربة من نارها كنت أشاهد حطاماً مروعاً أحال دون إرادة مني حروفي الى جمر و نصوصي الى حرائق ، عذراً سيدتي إن كنت قد آلمتكِ لقد كان همي إسعادك ياكوكب السرد الرائع !
الأديب القدير قاسم فنجان
يؤسفني تأخري عن مصافحتك والترحيب بقدومك
أعترف لك بأني لم أتوجع وأنا أقرأ هذا النص المغرق بالوجع لأني أزعم أن الحياة التي أبكتني دون رحمة منحتني حصانة ضد الوجع ... أرجو أن لا تصدق ادعائي لأنها لم تفعل ولأني ما زلت أتألم من آثار سياطها على روحي
كما أعترف بأنني لم ألهث وراء التفاصيل ولم ألتقط أنفاسي بعد السعي الحثيث لبلوغ الذروة في هذا النص المشتعل
لكني وبصدق شعرت باللذة وأنا أحرك رأسي تناغما مع الموسيقى الشجية التي عزفتها على أوتار الإبداع بحرفية وسلاسة كنت أقرأ بتأني وأعيد وأزيد وأنا أردد كلمة الله مع كل جملة حتى أنني استيقظت اليوم على وقع أنغامك تعصف في رأسي
لست هنا لأقيم النص أو أقيمك لأن الكاتب الحقيقي هو الذي يقييم نفسه قبل غيره حين لا يرضى أن يقدم للقارئ إلا ما يليق به ككاتب حقيقي ومتميز
أسعدني التعرف إليك فأهلا وسهلا بك ومرحبا
تقديري الكبير لأديب كبير