من دواعي سرورنا ، وفخرنا أن تُدرَّس إحدى مقالات زمليتنا الأستاذة رائدة زقوت كمحاضرة في جامعة خليجية .. وقد عرفت ذلك من مصدر موثوق .. لذا وددت نشر المقالة هنا اعتزازاً
بين زمن (ولادة ) وزمننا ...لمن غلبة الحرف ؟؟!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ رائدة زقوت
المرأة على اختلاف أماكن تواجدها ، ماذا أعدت لغدها وكيف تقرأ التاريخ ؟!
تاريخ المرأة العربية التي ما فتئنا نطالبها بأن تستعيد وضعها وأن تعمل لتخرج من بوتقة التجهيل التي أراد لها البعض أن تسجن فيها وساعدتهم للأسف هي في السكون والخنوع لهذا السجن، يحمل لنا تاريخنا المشرف الكثير من قصص التميز التي خلدت أسماء نساء بحروف من ذهب، وكل امرأة خلدها التاريخ كانت لها قصة ورحلة مع نفسها ومع المجتمع الذي كانت فيه ومن هذه القصص ومن هؤلاء الخالدات اخترت أكثرهن إثارة للجدل ربما لأن الفاصل الزمني بين زمننا هذا وزمنها كان النقطة الأكثر غرابة والتي تصب في صالحها وتدفعنا للتعمق بما تملك المرأة من إمكانيات لو قدر لها أن تنطلق على سجيتها .
أنا واللَه أصلح للمعالي
وأَمشي مشيتي وأتيهُ تيها
أمكّنُ عاشقي من صحن خدّي
وأعطي قُبلتي مَن يشتهيها
بيتان من الشعر كانا بمثابة شهادة تاريخية تلقي الضوء على مسيرة تلك الشاعرة الأميرة سليلة الأسرة الحاكمة في العصر الأندلسي، تم تناقلهما وتوثيقهما باسمها عبر التاريخ بعد أن قامت هذه الشاعرة بتوثيق البيتين بالذهب على ثوبها للتعريف بنفسها على طريقتها الخاصة .
تجبرنا السيرة الذاتية للشاعرة على التوقف ملياً عند تاريخها ومعاودة النبش بحثاً عما ميزها وجعلها من أشهر نساء عصرها وأكثرهن إثارة للجدل .
(ولادة بنت المستكفي) شاعرة أندلسية سليلة بيت الخلافة، هي بنت المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر لدين الله الأموي .
اشتهرت بالشعر وبجزالة الألفاظ والجرأة، وكانت عفيفة ذات شرف ولم يذكر عنها الفسوق أو ما شابه رغم جرأتها وعاطفتها التي كانت تظهر جلية في شعرها، وهي من الشاعرات الأندلسيات القلائل اللاتي نظمن الشعر وأجدن فيه وحفرن أسماءهن على صفحة التاريخ.
اتهمها البعض بأنها لعوب فاتنة فقد وصفت بالحسن بالإضافة للجرأة في الحديث وفي نظم الشعر، بعض ما كتبته لا يرقى أن يكون قصائد من حيث عدد الأبيات ولكنه كان قصيد مكتمل من حيث المعنى.
وأكثر ما يميزها مجلسها الشعري الذي كان يؤمه الشعراء والأدباء والأعيان الحديث في الأمور الأدبية والشعرية ، وكانت معروفة بالكرم وحسن المعشر واحترام الشعر والشعراء وهذا ما دفع بعض الرواة لتناول سيرتها على أنها مثيرة للجدل، حيث كانت تبوح بما عندها بشكل واضح وصارخ .
(ولم يمنعها كونها امرأة أن يكون لها قدرة وجرأة على الهجاء ، تناثرت في كتب التاريخ مقطعات هنا وهناك تعاتب وتهجو فيها لم نورد شيئاً هنا لعدم لياقة بعض العبارات التي - ربما- كانت مستساغة آنذاك)
أحبها ابن زيدون حبا شديداً ونظم فيها الكثير من الأشعار ونونية ابن زيدون الشهيرة شاهد على حبه لهذه الشاعرة وقد كان ينافسه في حبها الوزير ابن عبدوس والذي تشير المصادر إلى كره الأميرة الشاعرة له
(ولادة بنت المستكفي ) عاشت في الفترة ما بين ( 994- 1091) أي أنه يفصلنا عنها ما يقل عن ألف عام، وهذا في الحقيقة السبب الرئيسي الذي دفعني لتناول هذه الشخصية النسائية التاريخية
يقال أنه يأخذ على شعرها مأخذ آخر غير الجرأة والصراحة وهو أنه كان شعر نسائي بامتياز وهذا سجل لها لا عليها رغم ما تناوله الرواة عن سيرتها .
المقارنة من حيث المنطق بين الزمن الذي عاشت فيه (ولادة بنت المستكفي) وبين زمننا الحاضر لا ريب تصب من حيث الحرية والجرأة في التعبير لصالح الزمن الحاضر بكل ما فيه من حرية وتطور حضاري وتكنولوجي لم يكن ليتوفر بأي حال في العصر الأندلسي أو أي عصر سابق آخر، ومع ذلك وبكل صدق أكاد أجزم أن حرية التعبير عن النفس بالشعر وبالكتابة كانت تخترق جدار الألف عام الفاصلة زمنياً بين العصرين لتكون في صالح (ولادة) وصالح نساء عصرها .
وصحيح أننا قد وصلتنا أسماء كثيرة عن نساء شواعر حفظها لنا التاريخ إلا أن ظروف كل واحدة منهن هي التي جعلت اسمها يطفو على سطح التاريخ كالخنساء وغيرها وبالحديث عن هذه الشاعرة الكبيرة تلوح لنا مقولة قديمة أنه عندما قرأت الخنساء شعراً أمام النابغة وأجازها كثير من الشعراء بينما نرى الفرزدق يقول في امرأة قالت شعراً(إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها) فنرى المرأة على طول التاريخ تحاول أن تقشع هذا الغيم المتراكم منذ عقود طويلة حتى ..
بدأ عصر النهضة فكانت هناك أقلام نسائية لا ترقى لتكون ظاهرة واضحة للعيان من حيث الجرأة والطرح بنفس الوتيرة التي كانت تتبعها (ولادة) في ذلك العصر، باستثناء البعض ممن أسعفهن الحظ وظهرن بقوة وخلدت أسمائهن كرائدات ، أذكر منهن على سبيل المثال لا الحصر (مي زيادة ) ( نازك الملائكة ) ( فدوى طوقان) ومن المعاصرات ( غادة السمان ) و(أحلام مستغانمي ) ولم تسلم بعض الأقلام من الهجوم عليها واتهامها (بالشخصنة) في الطرح سواء كان الطرح شعراً أو نثراً وقد يتعدى الأمر الشعر والنثر ويطال كاتبات القصة والرواية .
هذه مقارنة قد تظلم المرأة في عصر النهضة الذي نعيشه الآن أكثر من أي ظلم آخر قد تم التركيز عليه عبر السنوات الماضية ، المرأة ...الكاتبة , الشاعرة والأديبة تحتاج للدعم لتمارس الحرية في الكتابة من غير أن تسلط عليها أضواء النقد الجارحة لشخصها لا لقلمها والتمييز بين القلم وصاحبته ووضعه بالمكان الذي يجب أن يكون فيه من حيث النقد المحايد للكتابة والفكرة والمضمون .
بغض النظر عن تحفظي الشخصي على جرأة ولادة أو بعض ما نقل على لسانها من أشعار أقل ما يمكن أن توصف فيه أنها أجرأ مما قد تكتبه أنثى من حيث الألفاظ وصراحتها ، إلا أن موضوع الحرية الشخصية والقدرة على تناول المواضيع واختيار ما تراه مناسبا من ألفاظ في زمن يبعدنا عنه ألف سنة هو ما لفت النظر لـ(ولادة ) ولتلك الفترة أيضاً كما أشرت.
أن يترك للقلم العنان ليكتب ما يشاء ما لم يتعدى على حقوق الغير لعمري هذه هي الحرية بأم عينها ولا تحتاج للكثير من الأدوات غير أن نتقبل ما يقوله الآخر بغض النظر عن جنسه ذكراً كان أو أنثى، كم من الأقلام التي تعيش بين ظهرانينا اليوم وتضطر للظهور بمظهر مغاير لما هي عليه في الأصل ؟؟ أو كم من المواضيع التي نتحاشى أن نخوض فيها باعتبارها تدخل في ( الممنوع ) أو باب غير اللائق طرحه من مواضيع مراعاة للعادات أو الالتفاف على الموضوع بمنع الكاتب من تناوله لأنه مسيء للذوق العام ؟؟!! وهذه أيضا طريقة من طرق الحد من الحرية الكتابية ملتوية لا أحد يملك معايير لما هو مسيء للذوق العام، وهذه حجة كبيرة تساق أيضا لأنه من المستحيل وضع سقف موحد لما يرضي الذائقة العامة أو ما هو مسيء لها طالما الموضوع لا يمس ديانة ولا يتناول أحدا في إساءة مباشرة، هو فقط ممارسة حرية كتابية لا سلطة عليها والتعبير عن رأي أو مشاعر بدون أن نشعر أن هناك مجموعة من الرقباء تتناول ما هو مكتوب بالتحليل والتحريف وتلصق الصفات بكتابها أو كاتبتها وفق أهواء خاصة بالمحلل لا تعمم في الغالب .
بالعودة لـ(ولادة )لم يوقفها نسب ولا وضع اجتماعي عن ممارسة حرية القلم والتعبير بأي لفظ متداول في زمانها ولم يثنها التقول عليها عن ممارسة حقها بأن تنظم الشعر وأن تعقد المجالس الشعرية وتتبادل مع الشعراء الأبيات الشعرية بكل جرأة محققة بذلك أفكار ما زالت تراودنا بعودة ازدهار الصالونات الأدبية بكل ما فيها من فرصة للنهضة بالواقع الأدبي وعودة قوية للشعر العربي والذي هو بلا شك وعبر التاريخ الطويل عماد الأدب العربي .
ربما يحتاج الأمر لأكثر من قلم يكتب هنا أو هناك، الأمر يحتاج لمجهود جماعي مشترك بين طرفي المعادلة الكتابية (الذكر والأنثى) لأن الكتابة فعل حياة جماعي لا فرق بين كاتب أو كاتبة ... شاعر أو شاعرة، يجب أن تكون النظرة محايدة بالمطلق والتشجيع لا يخضع لأجندة جندارية، فكم من الأقلام الجيدة التي طمرت بناء على أحكام مسبقة بتهم باطلة تطال الكاتب أو الكاتبة لأنه مارس نوعا من الحرية في التعبير عن آرائه ووجد من يقف له بالمرصاد، ويصدر حكم إعدام بحق حرفٍ نطق بما لا يشتهي ..!!
بين زمن (ولادة )وزمن العالم الافتراضي مقارنة تصب في صالح زمن ( ولادة )بلا أدنى شك ، فرغم اتهامها من قبل البعض بالفسوق لم يثنِها هذا عن الاستمرار في نظم الشعر غزلاً ...ومدحاً وهجاء ..لم تضطر لنظم الشعر باسم مستعار أو بصورة مغايرة لما تريد هي أن تكون عليه أشعارها، بل نظمته على رؤوس الأشهاد في أمسيات شعرية في مجلسها الذي خصصته لهذه الغاية، حيث تحيد الشخصنة وينتصر الحرف والأدب على ما سواهما ، كانت (ولادة )أكثر جرأة من شاعرات عصر النهضة باتخاذ توقيع لها من حرفها ونظمها وسمت فيه ثيابها وأصبحت الأشهر لأنها عبرت عن نفسها كما أرادت من غير وجلٍ أو خوفٍ من تفسير خاطئ من قبل البعض لما تقوم فيه.
نحتاج لجرأة ولادة من غير حروفها، فلكل منا حروفه الخاصة وسماته الخاصة التي تميزه عن غيره من الكتاب ، نحتاج العبرة والعظة منها لنكن نحن كما نريد ، نكتب من غير أن ننتظر من يقول لنا هنا تجاوزت أو تجاوزتِ وهنا قف لا يجوز، فالنصرة للحرف هي أول خطوة في طريق تحرير النفس من قيودها، هي الخطوة الأهم للتطور الفعلي والجدي والذي لا بد سينعكس على كافة أوجه الحياة لاحقا، فغراس حرية الحرف والكلمة سريعة النمو.. معمرة، تحتاج فقط أن نكون أنفسنا كما نريد نحن لا كما يراد لنا أن نكون.