ربيع 1989- أخذنا مجموعة شعارات وانطلقنا نحو السوق. مقابل الجامع الأبيض فردنا شعاراتنا فوق صدورنا. بعض الهتافات انطلقت من هنا وهناك.الجمهور أحاط بنا، حوار، تحيات، وجوه تعبق بالمعاناة ، تعابير الغضب تسمع بقوة، كلمات تعج بالقهر، تضامن جارف مع انتفاضة الحجارة. تفاؤل . مطالع أناشيد. إن ما يجري في الضفة الغربية وقطاع غزة، يجعلنا نشعر كم نحن صغار أمام البطولات الفردية والجماعية لأهلنا وأشقائنا في المناطق المحتلة.
عبر المتضامنون مع أهلهم عن الغضب العارم . أمام الغضب العادل لا يجد الإنسان ما يقوله. يفقد مطالع الكلام، أو لا يسعفه ذكاؤه بالكلمة المناسبة.
كان سوق الناصرة، المعروف باسم "سوق الروم" ايضا مكتظا كالعادة أيام السبت.
كان الغضب مكتظا في صدورنا...
فجأة وجدته أمامي..
شرطي تعلو كتفيه شارات لا افهم معناها، اوحت لي انه ليس أقل من ضابط.
للوهلة الأولى ارتعشت. هل حقا ارتعشت؟ ربما بقايا برد؟!
كانت شمس بداية الربيع تبعث الدفء.. بل وتكاد تميل إلى الحرارة قليلا.
- أنت تبدو مسؤولا عنهم.
بادرني الضابط بقوله. نظرت في عيون رفاقي، نظرت في عيني الضابط، مضت لحظة الارتعاش، شعرت بالحيوية، أجبته متأملا تفاصيل وجهه، مستغربا كيف يمكن لوجه بشري أن يخلو من التعابير:
- من حقك أن تفكر بما تشاء.
- هل تعرف أن عملكم يعرقل الهدوء والنظام!!
لم أميز صيغة السؤال بكلامه، ربما هو يقرر ذلك. بحثت عن تعبير في وجهه، عله يوضح لي الإطار الذي يقصده. لم أجد ما يوضح لي صيغة كلامه، أجبته بهدوء مفتعلا نفس الأسلوب:
- لا أظن. عملنا مشروعا .. ربما عملكم ليس كذلك..
قاطعني:
- هل تعرف أن ما تقومون به هو عمل غير قانوني؟
صيغة السؤال واضحة.. أما وجهه فلا يوحي بشيء.
- إن كنت تريد رأيي، ما نقوم به هو قانوني. من حقي كمواطن أن أعلن عن موقفي من حدث يمسني شخصيا كانسان ويمس شعبي.
- ما تقومون به هو عمل ممنوع.
- انسانيتي تفرض علي أن أحتج على جرائم القتل.
- هذا ممنوع!!
من الواضح انه بدأ يحتد.
- والقتل مسموح ؟! هل تكسير العظام مسموح وقانوني؟!
- عملكم هو الممنوع.
- كل ما هنالك إننا نعبر عن إنسانيتنا.
- هذا يحتاج إلى تصريح.
- والقتل بالجملة .. أيجري بتصريح؟!
احتد صوته، توترت عضلات وجهه ، تكاثر الناس حولنا كان السبب. اسمعوه ما لا يرضيه.. قال بعنجهية:
- لست هنا لأجادلك.
- لم أدعك لمجادلتي.
- لا تتواقح.
- ابتعد عني ودعني أعبر عن موقفي الإنساني.
- أنت عنيد ووقح.
صاح محتدا. بلعت ريقي شاعرا بالعطش والغضب. نظرت نحو الوجوه المكتظة المحيطة بنا. رأيت الغضب في السمات، التأييد في النظرات، المؤازرة بالهمسات، التشجيع بالحركات. احد المحيطين بنا مد لي زجاجة مرطبات ، ربما عرف ما أشعر به. ربما هو تعبير عن موقفه. شربت نصفها دفعة واحدة وأعطيتها لرفيق بقربي. شيء ما أطربني، ارتفعت معنوياتي. ازداد عنادي. قلت ضاحكا:
- للناس رأي آخر..
انفجر غاضبا:
- هات هويتك..
- بسيطة .. تفضل.
أخذها وسجل ما أراد من تفاصيل، ردها لي، ثم تكلم بهدوء مثير:
- أطلب منك أن تطوي الشعارات وتخلي المكان!
أجبته بهدوء مقلدا هدوئه:
- هذا رأيك.. رأيي أنا يختلف.
- آمرك أن تطويه..
هذه أل "آمرك" جعلتني أجيب بحدة:
- يمكن طي الشعار، لكن كيف أطوي إنسانيتي؟
تكاثر الناس حولنا وبسرعة جعله يتردد في سرعة رد فعله. غير أن الحدة صارت واضحة في كلماته وحركاته.
- معك دقيقتان.. اطو شعارك واذهب من هنا.
فضلت الصمت انتظارا لانقضاء الدقيقتين.
بدأ تجمهر الناس بالتكاثر. كان هذا هو هدفنا منذ لحظة وصولنا ورفع شعاراتنا. كانت فرق أخرى موزعة في أماكن مختلفة من مدينة الناصرة ترفع نفس الشعارات، في ساحة العين ، في ساحة الكراجات ، في منطقة العمارة (جنوب الناصرة) ونحن هنا في السوق.. كانت انتفاضة الحجارة على أشدها، كان القتل اليومي لأبناء شعبنا وتكسير عظام المنتفضين يشكل صورة مرعبة للواقع الفلسطيني. كانت خطتنا ان ننطلق بمظاهرات من عدة مناطق في الناصرة، لتلتقي في الشارع الرئيسي مشكلين مظاهرة ضخمة تضامنا وتأييدا لانتفاضة الحجارة ضد الاحتلال.
تجمهر الناس حولنا أغضبه. صرخ محاولا دفع القريبين للتفرق كل في سبيله. إلا أن صراخه زاد من الاكتظاظ ونرفزته ضاعفت التحدي.
صار في النفوس غضب وفي الجو حدة...
لفت انتباهي وجوده مع فرقة من خمسة أو ستة أفراد شرطة يقومون بتسجيل تفاصيل هويات بقية الرفاق والأصدقاء من حاملي الشعارات وحتى تفاصيل هويات بعض المارة المتضامنين علنا معنا والمتجمهرين حولنا تأييدا لنا.
لمحت فتى يافعا يتقدم من الشرطي ويطلب منه أن يسجل اسمه وانه ليس بحوزته هوية بعد بسبب صغر جيله. الفتى يصر أن يسجل أسمه والشرطي يغضب ويصرخ به أن ينصرف. المنظر لفت انتباه الجمهور الذي بدأ يصفق للفتى الذي شعر نفسه كالطاووس يستعرض ريشه، أو جرأته... صدر هتاف.. ثم هتاف آخر.. تردد بأصوات قليلة.. ثم ازدادت الحناجر عددا وقوة.. كثرت الهتافات.. صار التجمهر حولنا كبيرا.. والجو ازداد تكهربا !!
- انتهى الوقت. اطو شعارك واطلب من زملائك ان يطووا شعاراتهم وأن يتفرقوا.
- انا هنا امثل نفسي. عملنا قانوني، ليس من عادتي تفريق التظاهرات وطي الشعارات.
- سأعتقلك اذن!
أمسكني بذراعي.
- انت تسدي لي معروفا كبيرا.. في غزة والضفة تقتلون وفي أحسن الأحوال تكسرون العظام والرؤوس...
سحبني من ذراعي بفارغ الصبر، مشيت وسط الاحتجاج... وجدت نفسي مندفعا بالهتاف لسقوط الاحتلال، هل هو هتافي أم هتاف رفاقي؟!
لا أدري!!
انفجر الغضب. مئات الحناجر ترعد بالهتافات والأناشيد، كنا كما أذكر خمسة عشر أو عشرين متظاهرا، لكن حناجر لا عد لها ، حناجر شعب بكامله انطلقت تؤكد أن "شعبنا شعب حي ودمه ما بصير مي" وان الاحتلال لن يدوم...
أذكر أن يد الشرطي كانت مطبقة على ذراعي.. لا اعرف كيف افلت منه، كل ما أذكره اني كنت أهتف مع الهاتفين مندفعين بمظاهرة عفوية غاضبة تضم المئات نحو الشارع الرئيسي لمدينة الناصرة...