لحظة تأمل
تراقصت شرايين قلبها حزنا وألما وهي تراقب حفيدها الدكتور احمد عائدا مساء من عمله عبر البوابة التي تزدان بالورود على جانبيها وسحابات صيف تسبح برفق تحركها نسمات هواء عليل .
استذكرت تلك اللحظة ابنها البكر الدكتور محمد متأبطا يد عروسه وهو يلج تلك البوابة الزاهية شذى الياسمين يفوح في الأرجاء ممزوجا بعطرهما يرافق موكبهما جمع من النسوة ..استقبلتهم بالفرح والسرور المعرش على القلوب وزفّة عرس عربية يعلو فيها صوت الدف و الطبل .. أطلقت زغاريدا متتالية .. وهي تزهو بثوبها البديع ذو الطابع التراثي .. المطرز بألوان زاهية من الحرير الأصيل , وعلى يمينها يقف زوجها الوسيم بشموخ بابتسامته العريضة .. متألق في ثيابه العربية .. يعلو رأسه كوفية فلسطينية ..
إلتفتت نحوه وفيض من الدموع يغرق مآقيها .. عجوز قابع في ركن من البيت .. متهدل الجسد .. غائر العينين .. عاجزا عن الحركة منذ أن تلقى رصاصة استقرت في ظهره حين حاول الذود عن ابنه و رمى بنفسه فوقه .. وتحول مراسم وداعه المؤقت لابنه و عروسه لقضاء شهر العسل بين الأردن و تركيا إلى وداع آخير ..
فــ في ذات اللحظة تعرضت المدينة لاقتحام من قبل مدرعات صهيونية انتشرت في كل الإتجاهات تلاحق شباب الإنتفاضة ... و تطلق وابلا من الرصاص محشوا بحقدهم الأعمى .. لتستقر إحداها في صدر العريس أردته على الفور أرضا يتخبط في دمه .. وما هي إلا لحظات حتى لفظ أنفاسه الأخيرة .. و هوت عروسه مغشيا عليها من هول الصدمة ..
أسرعت سيارات الإسعاف للمكان وككل مرة منعت من الإقتراب .. لكن هذا لم يثنها يوما عن انقاذ الجرحى متى سنحت لها الفرص .. وبعد ساعات من الدّهم و الملاحقة و القتل استطاع جنود العدو الغاشم القبض على ثلاثة شبان من المطلوبين لديهم زجوا مكبلين في عرباتهم و أعقاب البنادق تنهال على أجسادهم .. حتى غابت العربة عن الأنظار .
هرع الناس من كل حدب وصوب و تداخلت الأصوات .. و رجال الإسعاف تسعف الجرحى و تخلي المكان من الشهداء .. و الجميع واجم الوجه واجف القلب .. و النسوة أصواتهن صدحت بالبكاء تارة و الزغاريد تارة أخرى ..
شهور مرت .. رزقت العروس صبيا وسيما سميّ باسم والده .. كانت دوما ترى فيه روح زوجها الحبيب الذي ما نسته يوما رغم زواجها لاحقا من الأخ الأصغر .. سنوات مرت لكنها لم تكن كافية لتمحو تفاصيل ذلك اليوم الأليم .. وهاهي اليوم بدموع مواسية تستقبل حفيدها الدكتور مسترجعة أدق حيثياته ..
طافت بيوت القرية تبحث عن عروس لحفيدها الغالي ..حتى استقر رأيها على إحداهن اجتمع فيها الحسن و الأخلاق و النسب رتبت الجاهة , طلبت يد العروس وبعد القبول , تمت الخطبة , في حفل بهيج , و الفرحة تقفز من وجهها الجميل رغم الهموم وعلامات السنين ..
توسطت النساء بثوب جهزته لهذه اللحظة , وضعت يدها على فمها , و أطلقت الزغاريد و العروسين يتقدمان باتجاه الغرفة في آخر الممر .. حصن أسواره مشيدة من ذكريات مؤلمة .. بابها الحزن و الأسى .. كاد ساكنها أن ينسى أنه لازال على قيد الحياة ..
إلتفت الجد نحوهما بعينين دامعتين .. وعلى وجهه استقرت ابتسامة خفيفة كانت قد رحلت عنه منذ سنين .. تقدّم العروسان وهالة من النور ترافقهما .. لثما يده ..بارك لهما و أمطرهما بوابل من الدعوات .
قاطع هذا المشهد صوت نحيبها و الحسرة تلف خصر قلبها وارتعاش يسطو على الأطراف .. لحظة أدركت أن كل ذلك كان سرابا .