ما كان عليه أن يترك القفص بمافيه ، بل بمن فيه ، وتحت أي طارئ مع أن الظرف كان الأقسى على الاطلاق.
في تلك الليلة ، بعد أن هرع وأخوته وأمه خارج الدار، وتركوها كما هي في عجالة البحث عن نجاة، بعد أن تتالت القذائف كأنها تلاحقهم و تستهدف البيوت المجاورة . كان الغزاة قد ألقوا من الجو المنشورات عليهم طالبين منهم المغادرة فورا قبل أن يدركهم القتل . ومع أنه لم ينم في المدرسة التي لجأ مع أسرته إليها مع المئات من الناس ، خوفا ، وقلقا ،ونتيجة الارتجاجات والاهتزازات والاختضاضات والقصف والانفجارات ، إلا أنه تمنى أن يقنع أمه بالسماح له بأن يعود إلى المنزل . لكنها كانت ترفض حتى الاصغاء لمجرد فكرةالعودة – في هذا الظرف .
كانت الدماء في كل مكان ، وكان الموت يتفجر ويدوي ويتشظى كما القنابل والانفجارات . والدته كانت تردد ( يكفيني فقدان واحد)، مشيرة إلى والده الذي لقي مصرعه منذ الدقيقة الأولى ،وفي الدفقة الأولى للهجوم– مع طلاب الشرطة . كان الموت هو الحاضر الأكبر، وكان ينتقل ، بل قل يتبختر، وفي وقت واحد ، في مئات من الأماكن ،في كل شبر ، داخل مساحةالكيلومترات الثلاثمائة وخمسين التي يقف عليها ( القطاع ) مع ثقل المليون ونصف المليون إنسان .. كان القتل هو الطليق الأوحد في القطاع .
العالم كله اليوم لاينام .العالم كله مع الذين كانوا محشورين في قفص ـ وقد منعت عنهم السبل وتقطعت طوال عامين قبل أن يبدأ الغزاة عملية القتل . حين هتف لأمه : القفص !
صرخت فيه :
كلنا في القفص.. وليس عصفورك وحده فيه.
كان يراه يغرد الآن .. ممكن ؟ أتغرد ( طيور الكناري ) في أثناء القصف ؟ من يصغي إليها ؟ ومن تريد هي أن تسمع الصوت الشجي الغرد؟ وكيف التمييز بين غنائها وبين عويل المفجوعين ؟ وماذا عن الصمت الهامد في الجسد الخامد بعد أن تتلقى اللحوم الطرية زخات من نار ( الفوسفور ) التي تمطرها سماء غزة – مع قصف هو أقوى من الرعود ، ومع برق هو مزق من كائنات من النار العاصفة في ليالي ( كوانين) على الشاطئ في غزة .
مرة أخرى نسي قرصة البرد ، ونسي نعاسه، ونسي حتى المخاوف من الموت الذي يمشي مرحا وحيدا في سماء القطاع – في الليل كما في النهار. كانت ليلة عجيبة . وكان يدرك أن الموت يلطأ لكل شيئ حي – في أي مكان في الدنيا المحصورة داخل القفص . لكنه لام نفسه مرة أخرى : فكرت في النجاة بجلدك ، ولم يخطر ببالك على الأقل أن تفتح الباب لطيرك الذي كنت لاتطرب إلا معه ومع صوته . كان عزفه ألحانا – بل قل هي أجزاء أو مقاطع سيمفونية. أحلى السمفونيات التي استمع إليها وأحبها كانت ( الخامسة ) لبتهوفن : والعصفور الأصفر الصغير الذي اشتراه قبل عام وأطعمه دائما ،واعتنى بمائه وبدفئه وكان يسمعه أجمل الألحان – العصفور الأصفر الصغير الآن في مسيس الحاجة إليه. وتساءل :
- أممكن أن يطيرلو فتحت له باب القفص؟ أكنت أنانيا حين لم أفكر فيه ؟ كان علي أن أطلقه ليكون حرا فيطير إلى حيث ينجو من الموت . ربما لن يستطيع الطيران . أجل ! لم يتعلم الطيران . أنت ابتعته صغيرا – مجرد لحم وزغب .. ليس إلا . حتى انه لم يكن يعرف كيف يغرد ، أنت كنت تسمعه في كل يوم شريطا فيه مجموعة كبيرة من ألحان وتغاريد الطيور – العنادل والشحارير وكذلك الكنار.
قال لك المختصون في شؤون عصافير وطيور التغريد انه كفيل بتعليمه . وتذكر : أليست المقدرة على الغناء موجودة في جينة الطيور الوراثية ؟ أنت مجنون اذ تفكر في هذا والموت يقطف الناس بالجملة ، ولا يميز بين امرأة أو رجل ،وبين طفل وشيخ ، وبين فتى يافع مثلك وبين سبعيني أو أكثر لايقدر حتى أن يعدو إلى الخارج إذا طلب منه أن يفعل كي ينجو بحياته.
كان يحاول أن يتسلل من بوابة المدرسة في لج الضجة وفي أوج الانفجارات ، لكن أمه كانت لاتبعد عنه ناظريها . كانت تنادي عليه ، وتوصيه أن يعنى بشقيقتيه وبشقيقه الأصغر ، فهي متعبة ،ليس جسديا حسب بل من فقدان المعيل والحبيب والزوج والخليل .
تذكرت أمه أنها لم تبك حتى اللحظة . أما لماذا فانها تعجبت وتساءلت ان كان الدمع قد جف بدوره في خلال الأيام والليالي الطويلة القاسية . كان المطلوب منها ألا تدع أحدا من أطفالها يشعر بالوحدة أو بالفقد وهذا ليس وقته . ربما بعد أن تهدأ الجراح ، بعد أن تذوي نيران المعركة – ويتبدد الغبار وتصبح الرؤية أوضح .
قيل بعد يوم واحد أن هناك ساعات ثلاثا يمكن للناس خلالها أن يتبضعوا وأن يتحركوا بحرية . الغزاة أعلنوا من طرفهم أنهم يتوقفون عن القصف والقتل لثلاث ساعات . وجدها فرصة فأقنع أمه أن يخرج لشراء الخبز وتأمينه لهم اليوم . وعلى الأقل بعض المأكولات . وهتف ( وبالمرة أفوت على الدار ) .
خرج مسرعا .. كان يسابق الزمن . . كان يخشى أن تمرالساعات الثلاث من غير أن يفعل شيئا : أراد توفير الخبز وأراد الذهاب إلى البيت ،لتفقده وللإطمئان على طيره الأصفر .
لحسن حظه كان أحد زملاء المدرسة يقف في الطابور انتظارا للخبز. طلب منه أن ( يحجز) له مكانا ،فهو يريد الإطمئنان على البيت . نقده ما يمكن أن يشتري به خبزا يكفيهم الليلة ، وأسرع نحو البيت ، لم تكن المواصلات يسيرة ، ولكن البيت أيضا لم يكن بعيدا عن ( المدرسة) ..
كان يلاحق في السماء الطائرات وهي تشق العنان ، وتمزق السكون ، وتغير لون السقف الأزرق وتخط عليه أثلاما بيضا ما تلبث أن تتبدد لتخط سواها . كان متأكدا أنه سيجد الطير الأصفر كما هو . يذكر انه ما نسي أن يؤمن له الماء والطعام . من المؤكد أن ما تركه يكفي الطير لثلاثة أيام على الأقل.
اذا ، ليعدوالآن كي يستريح الضمير . وصل لاهثا إلى المكان . كانت دارهم مقصوفة من عدة أماكن لكنها لم تكن متهدمة أو كومة من الركام كما هي دور الجيران الأكثر قربا من الشمال . نظر عن كثب : حتى الباب الخارجي للدار كان مواربا . هرع إلى الداخل ليرى ان كل شيء لم يكن في مكانه ولم يكن ثمة أي زجاج في النوافذ أو في داخل الغرف . حتى القفص الذي كان معلقا في غرفة الجلوس لم يكن في مكانه .. كان على الارض . على سجادة لم تعد قادرة على أن تتحمل ما انهار فوقها من قطع الأثاث . تطلع إلى القفص . وتعجب .. ان باب القفص مفتوح . كاد أن يطير فرحا : لاشك أن الكنار الأصفر طار .. وانه الآن في مكان آمن . وحانت منه التفاتة إلى الباب المفضي إلى الشرفة . كان قد تقصف وكأنه من زجاج . وحين أمعن النظر وجد الطير الأصفر الصغير . هرع إليه . حمله . لكن الطير كان باردا جدا ومغمض العينين . راح يتفحصه . المنقار، الأجنحة ، والرأس والبطن ، والقدمان . لم يجد ثمة أي اثر لإصابة . لماذا مات الطير ؟ من قتل الكناري ؟ هل اقتحم دخيل المنزل وخنق الطير الصغير الأصفر ؟ في تلك اللحظة تذكر أباه ، واقتحمت الأسئلة كل كيانه : من قتل أباك؟ كيف قتل ؟ ولماذا قتل ؟ وكيف ومن أين خرجت روح هذا الكائن الغريد الجميل والوديع ؟. .راح يعدو في اتجاه الفرن وهو يحمل الكناري النافق .. وكانت الدموع تحرق وجنتيه ، واستوطن ألم مفاجئ قلبه مع غصة تتساءل : تبكي ماذا ومن ولماذا وأين ستدفن كناريك الأصفر ؟ ولماذا نسيت ان تسجل تغريده على شريط ؟
الأديب نواف أبو الهيجاء
أهلا ومرحبا بك في النبع واحة الإبداع والمبدعين
قصة مؤثرة
تجسد الواقع المؤلم الذي تعيشه الشعوب المغلوبة على أمرها من قبل الغزاة.
حتى الطائر لم ينج من جبروتهم ونيران حقدهم .
شكرا لك أستاذي العزيز
تقديري وودي
( تثبت)
الزملاء الأعزاء
سولاف هلال
رائدة زقوت
عواطف عبد اللطيف
عبد الحميد دشو
فاتن الجابري
اعذروني لأني تأخرت كثيرا في الرد
أشكركم جميعا
وشكر خاص للصديقة الرائعة سولاف هلال
لأنها دعتني إلى هذا المنتدى الجميل
وتحية لروح النبع الأستاذة عواطف عبد اللطيف
تحياتي للجميع