إنني من عائلة جبلية اشتهرت بحبها الأبدي للطبيعة ، واتخذت من تربية المعز الجبلي مهنة لها ولا تذكر عائلتنا حتى يذكر جدّي وحكاية تيسه العملاق ليس لحجمه فقط بل لسلوكه الغريب أيضا ، ففي مواسم التزاوج كان يتسلل ليلا إلى ماوراء الجبل للقاء ما أتفق من المعز والرجوع ثانية في نفس الليلة ، وكان جدّي يتفاخر به ولا يبيعه أو يقايضه ولو بقطيع كامل ، ولكن مضى على ذلك سنين عدّة هرم التيس ومات ، وبقيت حكايته تروى بروح مرحة أما جدّي فلا يزال يحتفظ بجلد التيس للذكرى ، وفي أيام الربيع يقول مازحا ( لا أزال أشم فيه بعض من رائحة الشباب وطيشه ) .
في الجبال نتخذ من الكهوف مأوى لنا وهناك كهوف صيفية تقع في الأعالي وهي واســــعة ذات ممرات هوائية أما تلك التي تصلح للسكن فيها شـــتاءً فتقع في الوسط وقد آوينا إلى الكهف المفضّل لدي هذا الشتاء وهو كبير وذو حافة تمنع دخول المطر والثلج إلى داخله ، ونسَميه بكهف جـدّو ، وهذه أيضا إحدى ميزات عائلتنا حيث نطلق على كل شيء بارز المعالم ومهم في الجبل أســـــما معينا للاســـــــتدلال عليه لاحقا وهكذا إذا ما سألنا جدي عن أحوال الكلأ أو المكان الذي ذهبنا إليه للرعي نســمّي المكان باسمه الجديد الذي أطلقنا عليه فيهز رأسه إيجابا وقد عرف المكان تماما .
هذه حياتنا نركض خلف المعز ونتسلق أعلى النتوءات والصخور ولا نتعب من ذلك ربما لأننا نلهو ونمرح كثيرا وقد تتســـّــلق معزه إلى مكان عصيّ ولكن بصرخة من احدنا تعود أدراجها وإلا أرغمناها على ذلك برميها ببعض الحجارة . كل يوم نعيش مغامرة جديدة . نكتشــــــــف أماكن ونتعرف على نباتات وأزهار لأول مرة ونذكر لبعضنا مواقف نضحك منها فقد خلقنا لنمرح ولاشـــيء يغصّ علينا حياتنا ، وعندما تنفد منا الطرائف والنكت ولانجد مانتحدث عنه نذكر موقفا لجدي أو حكاية طريفة من حكاياته العديدة والمفعمة بالحياة ففي جعبة كل واحد منا عدد من تلك الطرائف التي تخصّه ، فمثلا قبل أيام أمام باب الكهف كنا ننشد دفء الشـــمس وننتظر أمي أن تقدم لنا بعض الطعام بعد أن تنتــهي من إعداده قال جدي بغتة ( لقد أتوا مبكرين...!) كنت أظنه يقصد أبي وعمّي اللذين يســـرحان بالقطيع في القمة حيث بقايا أوراق شجر البلوط إلا انه بعد برهة قال أيضا (اجل لقد أتوا مبكرين هذه الســـــنة !) فنظرنا إلى بعضنا باستغراب وقلت له (من يا جدّي) فردَ عليّ قائلا ( المزارعون ) رسم كل واحد منَا ابتســـــامة على شفتيه ، فربما هي إحدى مداعباته لتمضية الوقت ولكنه أردف قائلا ( أيها العميان إلا ترون التراكتور الأخضـــر ... ها ... ماذا دهاكـم ألا تطعمكم أمهاتكم الدهن الحر ... ها ... انظروا إليها ) وأشار بسبابته إلى اتجاه معين صوب البريــــة فبدأ الجميع يبحثون عن التراكتور المزعوم ولكني نظرت إلى عيون جدي وتبينت مسار نظره ثم نهضت من مكاني بهدوء وأمسكت بين أصابعي ماســـــــكة ملابس بلاستيكية خضراء كانت أختي قد نسيتها معلقة على حبل الغســــيل الممتد على طول باب الكهف وقلت مبتســما (أهذا ما تقصده يا جدي) قهقه عاليا كعادته وكأن الأمر لا يعنيه . هذا هو جدي وهؤلاء نحن أحفاده وأولاده لا نزال نسكن الجبال ونركض خلف المعزونتخذ الكهوف مسكنا وإذا ما اجتمعنا فتكون حكاية جديدة .