على بساط ذكرياتي ، وددت أن انقش ما يجول في خاطري عن ماض تلاشى ولم يبق منه سوى الذكريات. عن ماض اندثر ولسوف لا ولن يعود ، وعن عهد ما زال يظلل جزء مهما من حياتي ، مع علمي أن قطار الحياة لا يرجع ثانية الى المحطة التي قد تركها وراءه. نعم لا يرجع الابذكريات أحلامه ، حلوها ومرها. ما زلت اتذكر تلك الايام التي كنا نلعب فيها ونحن اطفال في بستاننا الجميل ، بل ما زالت اغاريد الطيور ممزوجة بخريرالمياه ترن في مسمعي ، بل وما زلت اشم أريج الازهار بألوانها الجميلة وكأنها تعيش معي يا اختي العزيزة. كنت اصغر منك بستة سنوات ، الا اني كنت اراك عملاقة في الايمان ، والعلم والمعرفة. كنت انتظر رجوعك ، بفارغ الصبر من المدرسة ، لتعلميني الاناشيد الوطنية ، لانشدها أمام والدي فخورا ، لكي يثني علي بالمديح ، لان كلماته ، كانت وساما أتحلى به في كل مكان. كنت انافسك في كل شئ ، لاني الولد الكبير المدلل ،الا أني كنت اجد نفسي عاجزا امام ايمانك ، وعلمك ، لانك كنت المعلمة الحقيقية لي. كنت اسير بهدى رشدك ، انت التي كنت تعتزين بكتاب الله الكريم. اذ كنت اجلس بجانبك خاشعا ، لأسمع تجويدك يا اختي الوفية. كنت تعلميني حفظ القرآن ، وكنت بكل شغف اتقبل دروسك ، وفعلا نجحت في مسعاك ، حيث حفظت اكثر من نصف جزء عمَ . وكم كنت اشعر باعتزاز امام والديَ عندما اقرأ لهما ما كنت قد تعلمته منك ، اذ كنت اريهم والفضل يعود لك باني لست اقل منك شأنا. اتذكر يوما ، كنا نلعب كعادتنا في البستان ، وبراءة الطفولة مشرقة في سماء نقاوتنا . كنا نلعب مع الاشجار ، مع الورود ، مع المطر ، مع الشمس ، مع كل شئ في الطبيعة. كنت اخفي نفسي بين اوراق الاشجار ، وانت تفتشين عني ، وعندما تجديني ، يتعالى الصياح المصحوب ببراءة طفولتنا ، وكم من مرة ، كانت الوالدة تاتي مسرعة ، ظانة ان شيئا قد حدث لنا ، وكنا نقابلها بالضحك ، اذ يزداد سرورنا برؤيتها يا اختي. اتذكر يوما ماطرا ، وكنا كعادتنا نلعب في البستان ، و نالتني كفك بقسوة لسبب لا اذكره ، وكنت انظر اليك باكيا ، وقد اندمجت دموعي بقطرات المطر ، وكانت تسيل على خدي ممزوجة بنوع من الحب والحنان ، ومن خلالها كنت انظر اليك بعاطفة الاخوة ، كعقاب على عملك ، وكنت تنظريني بألم محفوف بنوع من الندم ، فوجدتك تأتين الي نادمة باكية ، وتقبليني معتذرة ، فأزداد بكاء لألمي عليك ، وكان بكاؤك يزداد عطفا عليَ ، فامتزجت دموعي بدموعك ، كما امتزج لهيب حناني بنقاوةعطفك ، وبعد قليل صرنا نضحك وكأن شيئا لم يكن . ما زلت يا اختي اتذكر ذلك اليوم ، عندما تسللت طفلة فقيرة الى بستاننا خلسة ، وقد جمعت ما امكنها من التفاح ، والخوخ ، والتين ، والرمان. فهجمت عليها كالوحش ، فهربت خائفة ، تاركة وراءها ، كل ما كانت قد جمعته ، و ما كانت تحلم به المسكينة. جئت الي غاضبة ، موبخة اياي على عملي المشين قائلة : اين ايمانك يا قاسي ، وما اكتفيت بهذا ، و انما ذهبت وأخبرتي الوالد ، فوبخني على عملي ، ولا انسى قوله لنا: ان هذا الرزق من الله ، وعلينا ان لا نبخل ونحرم الاخرين من طيبات ما اعطانا الله ، وأدركت يا اختي انك كنت على حق ، وان تصرفي حقا كان لا يخلو من قسوة ، وبخل ، و انانية. وعلى اثرها ، ذهبت بصحبتك الى بيت الطفلة ، نحمل طبقا كبيرا من اجود الفواكه ، وقدمناه هدية لها مع اعتذارنا ، وكم فرحت زينب بقولك عندما قلت لها: من حقك يا اختي زينب ان تدخلي والوالدة البستان ، فأهلا بكما في أي وقت ، لأنه ملك الله لنا جميعا ، ومنذ ذلك اليوم ، اصبحت زينب اختنا ، وأمها بمرتبة امنا ، وكنت دوما الوم نفسي خجلا على ما بدى مني ، من تصرف لا انساني ، وصارلي درسا لا انساه ، وكل هذا كان بفضل الوالدين ، وفضلك يا اختي المؤمنة . كم من مرات كنت البس عباءة المحاماة مقلدهم ، وكنت اتكلم بصوت عال ، كنت تضحكين قائلة : تعلم حفظ القرآن قبل المحاماة ، وتعاليم الدين قبل العلوم الدنيوية ، لكي تصبح عضوا نافعا في بناء المجتمع. كنت اسمع منك تلك الكلمات وأتباهى بها ، الا اني ما كنت افهم معناها العميق. كنت تقرئين وتفهمين ، غير اني كنت اردد قولك كببغاء ، لذا كان البون شاسعا بيني وبينك يا اختي الوفية . سنة الله اقتضت ان تنفصلين عنا ، وتذهبين الى عش الحياة الزوجية ، وتركت فراغا كبيرا في البيت ، الا ان روحك بقيت معنا يا ام محمد. دار الزمن دورته ، وبعد وفاة والدي رحمة الله عليه بسنتين ، وبأمر من الوالدة ، غادرنا موطن ذكرياتنا ومرتع طفولتنا وأحلامنا. غادرنا عش طفولتنا ، مودعين البيت الكبير وحديقته ، غادرنا الرخاء الى عالم الفاقة ، الى مسقط رأس والدتي ، لنسكن بيتا بسيطا والذي يقع في افقر احياء المدينة ، والعائد لجدتي ، ولنسكن معها ، انا و اخي الصغير والوالدة ، لنعيش فقراء في بيت اكلت منه السنون ، وكان يبدو لنا كئيبا ، ورضينا بكفاف العيش ، اسوة بغيرنا من المعذبين في الارض. كتمنا سرنا عن اقربائنا ، بل كتمنا سرنا حتى عنك لفترة من الزمن يا اختي العزيزة. في هذا البيت تذكرت زينب الفقيرة ، وشعرت اكثر بوحشية قسوتي ، وما زال ضميري يؤنبني ، بل وما زلت اتذكر تصرفي اللا انساني مع زينب. كم كان يدفعني الشوق الى رؤية الوالدة العزيزة ، ورؤيتك انت يا اختي ، الا اني علمت ان صاروخا قد سقط على البيت وانهى احلامي. فقدت ولديك ، وفقدتك انا ، واندثرت سعادة الطفولة ، وتحولت اغاريدالطيور ، الى جنازير الدبابات ، والعربات المدرعة. وخرير المياه ، الى عويل الامهات ، وصراخ الاطفال المرعوبة. وأريج الازهار ، الى رائحة جثث الشهداء من شيوخ ونساء وأطفال. كل شيء قد تغير ، الا ان صورتك مازالت ماثلة امامي ، وحبك مازال يضلل حياتي ، رحمة الله عليك يا ام محمد وكمال وفخري. ابن العراق الجريح : صلاح الدين سلطان
آخر تعديل عواطف عبداللطيف يوم 10-07-2014 في 01:27 PM.
لا أدري يا أستاذ صلاح
لم كُتب علينا أن نحمل الوجع
القصص كثيرة
والذكريات مؤلمة
ما نعزي به أنفسنا هو التوقف عند محطاتها الجميلة بكل فخر واعتزاز
رحم الله أم محمد وكمال وفخري
كانت يرحمها الله أم ومعلمة وأخت وعنواناً للحنان
اختارها الله لتسكن جنانه
تحياتي لكم جميعا يا احباء النبل والشهامة
سارد عليكم ليلا بعون الله مع سلامات موقتة وفي امان الله موقتا.
.......................
يا عواطفنا رسالتك وصلت ولكن رديت عليها في الحال والمشكلة لم يصلك الرد وهذا ما حدث مع اخي واستاذي شاكر السلمان. متشكر لك يا بنت الحلال.ان شاء الله بفضلك تحل المشكلة.
اخوك صلاح الدين
لا أدري يا أستاذ صلاح
لم كُتب علينا أن نحمل الوجع القصص كثيرة والذكريات مؤلمة ما نعزي به أنفسنا هو التوقف عند محطاتها الجميلة بكل فخر واعتزاز رحم الله أم محمد وكمال وفخري كانت يرحمها الله أم ومعلمة وأخت وعنواناً للحنان
اختارها الله لتسكن جنانه أوجعتني وفتحت جرحي دمت بخير تحياتي
..........................................
الغالية علي انا عواطفنا الحنونة.
لو ارد على تعليقك هذا بحيث اعطيه حقه ثقي بالله بامكاني ان انكب عليه ست ساعات بدون استراحة ، واقدمه لك كتابا لا تقل عدد صفحاته عن 120 صفحة وبدون تعب ، لان المادة اختمرت في فكري بسبب كلمات اتت في تعليقك واخترقت صميم عواطفي واحساسي.
الله كم تالمت يا عواطفنا بقولك ((أوجعتني وفتحت جرحي))
انت عطف وحنان ... انت اشعاع ونور
انت دنيا من شعور ... واحاسيس الدهور
هاك سلاما جمعته لك من رحيق الازهار ، يا بنت بغداد الخير.
اخوك ابن العراق الجريح : صلاح الدين سلطان
آخر تعديل صلاح الدين سلطان يوم 10-07-2014 في 11:44 PM.
الأخ العزيز صلاح الدين
الأيام تمر وتبقى أجداثها محفورة في الذاكرة
رسمتها بطرقتك الرائعة
رحم الله أختك أم محمد والبسك الله ثوب العافية
.......................
استاذي القدير ، واخي الغالي ، الشاعر الدكتور اسعد النجار.
كلماتكم تبقى في جو معزتي ، ولن تتلاشى ، لان مادتها الاساسية متكونة من نقاء المحبة والاخوة ، وطيب المشاعر.
شكرا على زيارتك لحقلي ، الذي تجعل وروده تنشرح بنسيم مودتك ، ونقاوة طيبك ، يا ابن العراق الاصيل.
تقبل تحياتي ، كنسيم يمتص بعض همومكم ، في عراق الهموم.
اخوكم وتلميذكم ابن العراق الجريح : صلاح الدين سلطان