محلقٌ في فضاءاتِ الخيالِ
ممسوسٌ بغاياتِ المرامِ القصيةِ المضامين
هنا يظهر لنا الكاتب صوت الراوي ، وينقل لنا صورة بصرية ، لبطل النص ، فنراه هائما سارحا في ملكوت الجمال ، وأي جمال هذا الذي حلّق معه .!
بل ويصوره لنا كمن أصابه المسّ من خلال تأمله في مضامين عميقة ...بعيدة .
رفيقة الريحِ.. تعزفُ المينورَ استفزازاً لملكاتهِ المجنونة
ثم يوجه نظرنا صوب العازفة ...والتي بعزفها تحرك جوانحه ..وتزيده تحليقا في فضاء الخيال .وبديع تصويره له برفيقة الرّيح ، لأنّها بعزفها هذا تشبه الريح في تنقلها وعبورها كونيات وفضاءات واسعة .فكأنّها بعزفها تستهدف ذائقته ورغباته ...ألسنا عندما نسمع أغنية معينة يشدنا لحنها وكلماتها وصوت مغنيها نشعر أن هذه الأغنية بعناصرها ومكوّناتها تستهدفنا نحن بالذات ! ونتمنى أن يحسّ الآخر بما نحسّه .
تعرفهُ من آلافِ السنين.. حاضرُ الرؤى الشبحيَّةِ.. ممزوجٌ بهفيفها الفتَّان
وكأنّها تعرفه منذ القدم ، والمعرفة هنا معرفة حسيّة وليست ماديّة ..فهي بحركاتها الهامسة الرقيقة جعلته ينصهر معها ..انصهار الطيْف بالطيْف .
ودلالة الحس هنا مفردة شبحيّة ...فالأشباح قد نراها ولا نلمسها .
..
يجوبُ خلالَ نقراتِها البديعةِ حدودَ المجرَّات
وهنا يشبهها بالطير الذي له منقار ...وكأن أصابعها منقارا تحمله معها وهي تعزف على مقام النهاوند ( إلى عالم الكواكب والنجوم الشاسع ) .
يدنو أكثر من هالاتِ نجومِها الومَّاضةِ باقتدار..
يصغي احتدام انفجاراتها النوويةِ بصخبها العاتي، على مسافاتٍ من أتونٍ مهيب!
ثم.. ينهمرُ أثيراً ما بين مزارِعِ الدُّراقِ المُخمليَّةِ الأريج
يجوب ...
يدنو ...
يصغي ...
ينهمر ...
أربعة اشتعالات ذاتية يصورها الكاتب في لوحة مدهشة ...ورسمها بالفعل المضارع ، تعبيرا عن حالة عاشها البطل وما زال يعيش تحت تأثيرها ، فالمشهد ما زال متجليا ً ، وأراد الحديث بلغة الحاضر وابتعد عن الحديث بلغة الماضي من منطلق نفسي ترك التأثير وما زال ، فالكاتب يُبحر بنا في مكامن النفس ...
فهو يجوب من خلال استماعه لعزفها البديع الذي بعث الدهشة في نفسه لعالم واسع رحب رمز له بعالم المجرّات كناية عن رحابته واتساعه ...وهنا يُبيّن لنا أنها عازفة بارعة من خلال تعبيره ( نقراتها البديعة ) ..وهي صورة جميلة ..
يدنو ...وهو اقتراب نفسي حيث أن بطل النص لم يبرح مقعده الذي يجلس عليه مستمعا ، لكنّ روحه تقترب أكثر من ألحانها والتي عبّر عنها ب ( هالات نجومها ..) .
يصغي : وقد تخيل أن ما تُحدثه من عزف أشبه بالإنفجارات النووية ..انفجارات ينبعث تأثيرها عبر الهواء لا كما تفعل انفجارات القنابل من حرائق ...اراد ان يقول أن تأثير عزفها يسري في الروح والنفس .
ينهمر : والإنهمار نتيجة لكل هذه المحطات التي مرّ بها ...ها هو كما الهواء الذي يعانق مزارع الدرّاق وما بها من عبق خاص ...
وبين حقولِ القمحِ في عيني أميرتهِ الأسطورةِ أوانَ الحصاد!
ينهمر بين مزارع الدرّق وحقول القمح ...وهي صور شفيفة التقطها الكاتب تعبيرا عن الحالة التي تعيش فيها نفي بطل النص والتي اندمجت وامتزجت مع جمال ابداعها وروعة عزفها على مقام النهاوند ...
**
وعندما تبطئُ إيقاعَ العزفِ كل حين..
تعلمُ أنَّه استسلم –كما دائماً- لكنْهِ الانفصال !
وحين يبدأ ايقاع العزف بالهدوء ، ويأخذ الرتم الموسيقى بالإيذان بالوصول إلى محطات التوقف ...وهي مدركة استسلامه كما كل مرة يستمع إليها ...والإستسلام هنا هو انفصال الذات ...فالروح تنفصل عن الجسد ...محلقة مع الألحان ..ثم يبدأ الإنفصال بالعودة ...
يتركُ جسدهُ قبالتها على كرسيٍّ خشبيٍّ قديم..
ويصعدُ بروحهِ آفاقَ السماوات..
يعود الكاتب للصورة البصرية ، فبطل النص جالس على مقعد خشبي مقابلا للعازفة ...وهذا الكرسيّ وصفه بالقدم تعميقا لدلالات في نفس الكاتب ..
الجسد على كرسي مقابلا لها والروح هائمة بعيدا بعيدا ...
يصبحُ عزفُها السحريُّ أجنحتهُ الملائكية!
يحسبهُ المستمعونَ جزءً من عالمهم الصغيرِ..متأمِلا!
وحدها فقط.. ترى مكانهُ ماوراءَ عوالمِ الكائنات
**
وإذ تتحضَّرُ لخاتمةِ معزوفتِها المضمَّخةِ بقشعريراتٍ تنتهكُ حرمةَ الأحاسيس
الموسيقي البارع يُشعر المستمع أنّه سينتهي من معزوفته ويحضره للخاتمة ..ومعزوفتها هذه كما يصفها الكاتب رقيقة عذبة تنساب للروح بسلاسة ...
ترمقهُ بابتسامتها الحانيةِ حدَّ عناقِ روحهِ الحالمةِ
وتختلس نظرة لهذا الهائم بعزفها ..نظرة تكاد تدنو من روحه وتعانقها ...ولا يخفى على القاريء الفطن الإستعارة المكنية التي أحسن توظيفها الكاتب في معرض بناء الصورة الجميلة حين شبّه النظرة بالإنسان التي تعانق وحذف المشبه به وأبقى شيئنا من لوازمه ( النظرة ) على سبيل الإستعارة المكنية ...
مكفكفةً طلائع عبراتِ تأثُّرهِ العميقِ..قُبيلَ بزوغِها شفيرَ الأجفان
نظرتها العميقة كان سببا أن تمنع دموعه في عينيه تأثرا بسحر لحنها ...فالدموع ظاهرة في العيون لكنها لم تتدفق وبقيت حبيسة العيون ...
تستقبل تصفيقَ الحاضرين بودٍّ وامتنان..
وتوصلهُ بنظراتها مرافئ الهدوءِ، ليمنحَها عربونَ امتنانه الخاص
على ورقٍ ينتمي أناملها النديَّةَ
بوحيٍّ من خلودِ معزوفتها
ويراعٍ استقى مِدادَ شفافيَّتِها ترانيماً أذهلتِ القارئين
أنتهت المعزوفة ...وتفاعل الحضور مع النهاوند هذا المقام الموسيقى الجميل ...وقدموا التحية للعازفة من خلال التفيق وإبداء الإعجاب ...وهي تلاحقت نظراتها صوبه ...
معزوفة المينور ...
نص رائع هائل في تفاصيله ، قدّم الكاتب فكرة بديعة ، وأخذنا من خلال قراءة هذا النص لعالم الموسيقى الجميل ..حتى كدنا نستمع معه لعزفها وعشنا حالة المستمع الذي خصّه الكاتب من بين الحضور ...ربما هذا المستمع هو الكاتب نفسه ...وهذا مايقودنا إحساسنا وفهمنا للنص ، ذلك أنّ الكاتب تقمّص دور الراوي واستطاع بحنكة وبراعة أن ينقل لنا أحاسيس المستمع ..ولم نشعر ببقية الحضور إلا عند الختام ...فالكاتب رسم المكان ورسم الشخوص وحصرهما بالعزفة والمستمع ...ثم ظهر في الختام أن العازفة كانت تعزف في حفل ويحضر الحفل جمهور ..إلا أن الجمهور لا يشكل شخوصا أساسية في النص ...فالنص يدور بين ( معزوفة ) و ( عازفة ) و ( مستمع ) ...
وهناك سؤال يجول في خاطرنا ..ولم يتطرق له الكاتب زيادة في التشويق في بناء العمل ...ما هي الآلة الموسيقية التي كانت العازفة تعزف لحنها عليها ؟
هل هي الكمنجة ؟ العود ؟ ....الخ .
أجزم من خلال قراءة النص أن الآلة هي البيانو ..ودلالة ذلك قوله : ( نقراتها البديعة ) فالنقر لا يكون إلا على شيء ممدد ( البيانو) ، ولو كانت كمنجة لما كن العزف نقرا ً ..لكان ملامسة من خلال القوس الذي يحمل الوتر حين يلامس أوتار الكمنجة ...والعزف على العود لا يكون نقراً ..بل يكون عن طريق ضرب الأوتار بريشة يحملها العازف ...بينما البيانو يكون بوساطة أصابع العازف التي تشبه منقار الطائر حين تنقر أوتار البيانو ...
البير ...
شاعر مطبوع وأديب مدهش ، ثقافته رفيعة وحسّه مرهف وأسلوبه متفرّد ...
يختار مواضيعه برقي ويعبّر عنها بأسلوب رائع جميل ...
يكتب النثر الفني القريب من لغة الشعر ...شعرت وأنا أقرأ له هذا النص أنني في حضرة ( النبي ) لجبران خليل جبران ...
ألبير ...هكذا قرأت النص وهكذا فهمته ..ربما أكون قد أصبتُ في القراءة وهذا جلّ ما أبغي ، وربما أكون قد أخفقت ..فإن كانت الأولى فهذا مردّه توفيق الله جلّ في علاه ..وإن كانت الثانية فمني ومن الشيطان الذي نعوذ بالله منه .
لك محبتي وجلّ تقديري
الوليد