يُعد الإستهلال أو المطلع الشعري أحد سمات ومكونات القصيدة ، وأحد الأركان البنائية المهمة، للمطلع خصوصية في النص الشعري .
ودراسة المطلع له أهمية ذلك أنه يشكل بُعْداً بنائيا تصاعديا ً ، فهو الذي يختزل الدفقات الشعورية التي تنتجها التجربة الشعرية ، ومن خلال المطلع يبدأ الإنطلاق نحو تحقيق الشكل النهائي للقصيدة .
ونجد أن إبن المعتز في كتاب البديع في الصفحة 75 قد سمى براعة الإستهلال ( حُسن الإبتداء ) ، وفي هذه التسمية تنبيه على ضرورة تحسين المطلع الشعري .
فالقصيدة في خط سيْرها ونمائها تتكيء على مطلعها الجيد ..الذي يرسم طريق مسيرها ، ويفصح عن توجهها الدلالي ، وأهدافها ..
والشاعر ألبير ذبيان قد اهتم في مطلع قصيدته مدركا أنها أول ما يُقرع السمع به ، وبه يستدل على ما عنده من أول وهلة ...
يقول ألبير في مطلع قصيدته :
قِفـــــا قبـــلَ شُطــــــآنِ الفُــــــراتِ بـــــأميــــال
فـــــــإنَّ التيـــــاعَ الــــــرُّوحِ أودى بــأوصــالـي
قفا : خطاب للصديقين المجهولين ، فقد دأب الشاعر العربي لخطاب صديقين ليس بالضرورة أن يكونا متواجدين فعلا ، أو لخليل ٍ مجهول ، ولكن الخطاب يأتي لهما من أجل إزالة الوحشة من نفس الشاعر في صحراء موحشة مترامية الأطراف ...مليئة بالمخاطر ..فهو حوار معهما حتى يملأ النفس بالطمأنينة ...وهنا صاغ الشاعر المُلهم ألبير ذبيان ...مطلع قصيدته على منوال الشعراء الأجداد ...بادئا خطابا مع صاحبين من الخيال ، ...وهنا يناشدهما بالوقوف قبالة شواطيء نهر الفرات على بعد مسافة ليست طويلة ...
والخطاب لنفسه من خلال توجيه الخطاب لهما ...
لماذا يريد منها الوقوف قبالة شطآن الفرات ؟
لأنّ لوعة الحب التي تكابدها روحه قد تجاوزت الروح وطالت جميع أوصاله وهو تعبير مجازي ، أراد أن يقول أن روحه قد تعلقت بتلك الروابي والبلاد ،
لعلِّـــــي إذا مــــا ســـــاحَ دمـــعُ صبـــابتـــــــي
تـجمَّـــــلـتُ بــالحُسنى وعــــدتُ لتَـرحــالــــــي
لعلّي : هنا إلغاء لوجود الخليليْن ، وتأكيد وهمية وجودهما ، ولعلّ : تحمل الأمل والرجاء ..ودمعه سيهمي شوقا ، ولكنه يتحدث هنا قبل هطول الدمع
والدموع قبل هطولها يكون وجع النفس أكثر ، وفي الدمع نوع من الراحة ...وهنا وجع الشاعر كبير ومعاناته عميقة ، لعلّ الدمع يطفيء جذوتها ...والصبابة : رقة الشوق . فربما حين تهمي دموعه الممزوجة برقة الشوق سيتحلى بالصبر ويستمر في ترحاله ...الترحال الذي يحمل معه الشوق لتلك المغاني والربوع ، لقلب عاشق وصل لمرحلة الوله من مراحل العشق ...
ولا تــــكفُفـــــــا عبــــراتِ قلــــــبٍ مـــــولَّـــــهٍ
كـــــــأنَّ اضطــرابَ الخفــقِ فيــــهِ كــزلــــزالِ
يعود للحديث عن الخليليْن ..ويطلب منهما أن يتركا دموعه تهمي ..دموع العين ليست كدموع القلب ...وهنا استعارة مكنية جميلة حين شبه القلب بالعيون التي تبكي وحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه ( العبرات / الدموع ) ...
وللقلب خفقان شديد الإضطراب أشبه ما يكون بالزلزال ...
فــــإن جُـــــزتُمــــا الأطــلالَ مــن طـــفِّ نَينَوى
دعـــوني أبــــــثُّ النهــــرَ مـــن فيضِ أهــوالـي
و الشاعر يستمر في فضاء مطلعه وبراعة استهلاله ..ما زال في خطابه لهما ،وكأنه في حديثه مع الآخر ما يسرّي به نفسه ويزيل همومها .. وهنا يقترب من معالم ويحدد جغرافية ( طفّ نينوى ) ...
مطلع القصيدة والجو الذي نقلنا إليه الشاعر ، وما يكابده من لوعة ولواعج عشق وتعلق في المكان ( العراق ) ، قد يشي للوهلة الأولى أنّها توطئة لبثّ لواعج عشقه وهيامه ...
ونلاحظ جمال الإنتقال من المطلع وأجوائه ..وحُسن الإنتقال وبراعة الإستهلال ، إلى موضوع القصيدة ...ومطلع القصيدة من المفاصل المهمة التي تجذب ذائقة المتلقي كما هو الشأن في حُسن انتقاله من المطلع للموضوع الذي يريده الشاعر ...
نعود لهذه الباذخة ..حيث نجد الشاعر قدّم توطئة للإنتقال في عجز البيْت السالف (دعـــوني أبــــــثُّ النهــــرَ مـــن فيضِ أهــوالـي)
ثم نراه ينتقل صراحة لموضوع قصيدته في البيت التالي :
وأستنطـــــــــقُ الآرامَ عمَّـــــــــا ألــــمَّهــــــــــا
مــن الغـــــــدرِ والتَّدميـــــرِ فــي رَبعها الخالــي
ثم يردفُ الإنتقال بتساؤلين استنكاريين :
وهــــل يُحســــــنُ النَّجــوى سوى قلــبُ نـــادبٍ
تـــلاشى علــــــــى فقــدِ الحبيـــبِ كــأمثـالــــي؟!
وهـــل تنطِــــــقُ الأطـــــلالُ بعــــدَ دُروسِهــــــا
ســـوى للحزيـــــــــنِ النَّـــــاحــلِ الجسدِ البالي؟!
هنا نتوقف ...ونتأمل ..ونتساءل : أيّ قلب هذا الذي بين جوانح شاعر بحجم ألبير ؟ وأي هموم تلك التي تسكن وجدانه ؟ !
في هذه الأبيات السبعة ...والتي تشكلُ الجزء الأول من القصيدة ، مساحة مذهلة للتوقف والقراءة ...لذلك رأينا أن نفرد قراءة خاصة لهذا الجزء من القصيدة ، على أن نكمل بحول الله ما تبقى في حلقات قادمة ...فقصيدة بهذا الحجم وهذا الزخم تحتاج التوقف والوقوف ...
والقراءة الأسلوبية من أبرز مناحي النظر في الأدب العربي ..وعندما نقرأ القصيدة ، يلفت انتباهنا ما تمتاز بها من خواص سواء على الشكل الفني ، أو النحوي ، أو النفسي ...
وربما كان سعْينا لإلقاء الضوء على بعض الظواهر الشكلية في قصيدة شاعرنا مؤكدين قابلية هذه القصيدة بشكل خاص وأدب البير ذبيان بشكل عام على مقولات النقد الحديث ، مما يثبت حيوته وديناميكيته ، فالبناء الأسلوبي المتجسد في هذه القصيدة ــ موضوع دراستنا ــ لا بد من تناوله من منطلقات نقدية مغايرة ، أهما هو المنطق الأسلوبي .
ظاهرة التكرار :
حيث يعرض الشاعر لأمثلة كثيرة عمد فيها إلى تكرار الحرف، أو الكلمة، أو التركيب،
فالتكرار في القصيدة يشمل أنواعًا :
فمنه تكرار الحرف، وتكرار الكلمة، وتكرار التركيب، وتكرار البداية، وتكرار اللازمة، وهذه الأنماط ترد في القصيدة ، وتتواتر، لغايات: فقد تكون الغاية صوتية، أو موسيقية .