السماء ضبابية داكنة، والدروب ندية رطبة، انتعاش لم تشعر به من قبل، قمم شاهقة تقابلها وديان سحيقة أي روعة إلهية أبدعت خلقها، ودعت الخليقة للاستمتاع والتأمل بها، كانت على مشارف إحدى القرى التي أعادت اكتشافها وسائل الإعلام، وعلى غفلة من المحطات الإخبارية، التي تضج بأنباء الحروب وقتل المدنيين، واغتصاب الكلمات في الحناجر، اغتنمت فرصة سفر أخيها لتسافر برفقته إليها، لم تشعر بطول المسافات التي تعددت ألوانها، كان في مباهج الطبيعة ماجعلها تشعر باسترخاء تام، وتصالح مع نفسها فتشعر بشيء من الأمن والسلام، وهي تمسك بيد أخيها معبرة عن رضاها بابتسامة شحيحة تخشى لو توسعت بها سرقتها منها أيام قادمة!فهم أخيها ما ذهبت إليه وسارع لمبادلتها بابتسامة سخية وضمها إليه بكل حنانٍ، جعلها تشعر بالدفء بينما قطرات المطر بدأت تتساقط رويداً رويداً على نوافذ الحافلة التي على وشك أن تتوقف في استراحةٍ على ضفاف إحدى المرتفعات الجميلة، تحت ديمات تشرين الواعدة آمالاً وردية، كان هدير الشلالات ضعيفاً، توقف تدفق الماء، لتراكم الثلوج أعلى الجبال، سيعود الشريان للنبض أوائل فصل الربيع، عندما تبدأ الثلوج بالذوبان، لكنه لن يعود معها كما كل عام، تحسست خدها الذي بلله دمع الذكريات، وهمت بالنزول من الحافلة برفقة صديق رحلتها أخيها العائد من شمال أوربا البارد، كانت تشترك معه في حب فصل الخريف لالون واحد لأرصفته، فوضوية شوارعه، داكنةٌ سحبه، ورغم تعري أشجاره كانت تكتسي حياءً بذبولها، ونحافة أغصانها، تماماً كما إحساس المرء بخطيئته، يقف باحثاُ عن تبرير لها وبعض الحياء يكتسي ملامحه..هي تتعرى لتبدو اجمل بعد شهور غير أن الإنسان ليبدو أقبح، فهو يملك إرادة قادرة على كبح جماح معصيته..
كانت الشوارع مبللة بمياه المطر، تأنت في مشيها كما باقي المسافرين الذين بدؤوا بالدخول وتوازع المقاعد التي كانت معدة لاستقبالهم، وكانت الوجبات ساخنة وطازجة مرصوصة أمامهم في منظر يغري بالتهامها، إلا أنها فضلت الاسترسال على الطعام، كانت الخطوات تتسابق إلى داخل الصالة، بينما هي بقيت هادئة في الركن القصي من البهو الزجاجي، وبين يديها فنجان قهوة، أحضرها لها أخيها ورفيق سفرها..
انتهت فترة الاستراحة، ولحقت بالحافلة مع النداء الأخير للتوجه إليها، تأملت الوجوه التي بدت ملامح السرور عليها، وقد امتلأت البطون، تبعها الشاي في الحافلة وهي تتحرك ببطء متابعة رحلتها .. كان الطريق رائعاً للغاية، كلما ابتعدت الحافلة عن البحر، بدت الجبال أجمل، وهي تغوص شيئا فشيئاً بين الضباب، وقد اختفت معالم السفوح والوديان تماماً، تعرجات ضبابية، ومرتفعات ثم منخفضات ثم طريق اسفلتي متعرج بين السهول، ثم روائح الخريف التي أنعشت الأنفاس، والمطر زخات حالمة تتساقط قطرات فوق أرصفة البلدة الساحرة، وصلا أخيراً إلى إحدى المنتجعات الحرارية، وقد لف المنطقة السكون، بينما المساء يتدرج في إسدال ستائره.. في الفندق تناولت مفاتيح غرفتها لتصعد والتعب سيطر على تفكيرها، ألقت بحقيبتها واسترخت فوق السرير، لتنعم بدفء وتستسلم للنوم ..رغم همومها وآلامها الدفينة، والصراع الذي تعيشه، شعرت بوردية الدقائق الساكنة، بين زوايا الغرفة، وفي ردهات الفندق، الذي بدأ صباحه باستقبال أفواج من محبي فصل الخريف، صعدت إلى الطابق العلوي حيث بوفيه الإفطار، منح النوم وجهها رونقاً وردياً، ونظراتها أكثر بريقاً، شعرت بشيء من الحيوية وهي تستقبل أنفاس الخريف، من نوافذ المطعم، كان الشاي لذيذاً للغاية، منح أناملها دفئاً من نوع خاص قطع تأملها اقتراب أخيها الذي بدت عليه ملامح السرور والراحة، تبادلا نظرات ودٍ عميقة، واتجها إلى البوفيه لانتقاء بعض من الأصناف الخفيفة، عندما لمحت طيفه وهو يبتسم لمرافقه، لم يتبدل رغم مرور سنوات الغربة، ماالذي أتى به إلى هذه الفسحة الزمنية، وفي مثل هذا الوقت من السنة؟ لابد وأن شيئاً أقوى من الأيام استدرجه، ليحل ضيفاً ثقيلاً على مكان أرادت أن تكون فيه وحيدة مع الطبيعة..
اِنتهت من تناول فطورها، وبدأت بممارسة أولى نشاطات العطلة، ثمة حركة غير اعتيادية، بين الردهات وعلى ضفاف البحيرة التي تحتفظ بحرارة مياهها بعض الشئ، جلست بالقرب من الينابيع تتأمل حركة الطبيعة وقد حضنت مياه البحيرات المجاورة مختلف الأنواع من أوراق الشجر المتساقط، وقد توسطتها أشعة باهتة للشمس التي أرسلت أشعتها من خلف الغيوم الرمادية، لم تكن المناظر التشرينية محط اهتمامها وهي المثابرة على حب تشرين، فجأة شعرت باقتراب طيف من مكانها سرعان ما اختفى، وهي تهم بالنهوض، ما إن تقدمت خطوتين حتى لمحته يقترب منها، حاولت تجاهله، لكن نظراته كانت أقوى حِدةً من عِنادها، توقفت تتفحص عينيه، فهمت الكثير، لم يأت صدفة ولم يأت لأجلها، أعنف اختبارات القدر، أن يعود وجه من الماضي، شغل مساحات في القلب والعقل ثم اختفى وعندما صادفته، كان لغايات مختلفة تماماً عن توقعاتها، حاول التقرب منها لكن رماح الغدر كانت أسرع، ماهي إلا لحظات حتى سقط في مياه البحيرة التي توسطتها بقع حمراء راحت تكبر شيئاً فشيئاً، كما جرحها الذي حاولت تضميده سنين طويلة، عاد لينزف من جديد ومياه البحيرة تتلون بلونه، وتفيض كما دمعها الثائر، ليتحول كل شيء أحمر الأوراق المتساقطة وقطرات المطر، ولون الأخبار في مختلف وسائل الإعلام..
التوقيع
سنلون أحلامنا بأسمائكم. فاستريحوا
آخر تعديل عواطف عبداللطيف يوم 10-29-2018 في 12:18 PM.
وكما العادة سرقتني مني يا عروبة في سردك الآسر
وقدرتكِ الهائلة على جذب المتلقي وإجباره على التعايش مع الأحداث
عبرت من هنا برشاقة ومتعة لا تضاهى
رغم النهاية الحزينة التي لم أتوقّعها لنصّ خريفي هادئ بامتياز
إنحناءة لهذه اللغة التي تخترق الروح
ولا تتركها إلاّ مكتظة بالإبهار
ممتع هذا السرد أ.عروبة
تقمصت حالة الإصطياف على ضفاف هذه البحيرة الغافية والتمتع بالطبيعة الجميلة التي صورتِها حتى وإن كان الخريف سيد المكان.
أدهشتني قفلة النص فقد كان ضربة معلم.
تقديري لنبض يراعك
تحياتي وبيادر الياسمين
السماء ضبابية داكنة، والدروب ندية رطبة، انتعاش لم تشعر به من قبل، قمم شاهقة تقابلها وديان سحيقة أي روعة إلهية أبدعت خلقها، ودعت الخليقة للاستمتاع والتأمل بها، كانت على مشارف إحدى القرى التي أعادت اكتشافها وسائل الإعلام، وعلى غفلة من المحطات الإخبارية، التي تضج بأنباء الحروب وقتل المدنيين، واغتصاب الكلمات في الحناجر، اغتنمت فرصة سفر أخيها لتسافر برفقته إليها، لم تشعر بطول المسافات التي تعددت ألوانها، كان في مباهج الطبيعة ماجعلها تشعر باسترخاء تام، وتصالح مع نفسها فتشعر بشيء من الأمن والسلام، وهي تمسك بيد أخيها معبرة عن رضاها بابتسامة شحيحة تخشى لو توسعت بها سرقتها منها أيام قادمة!فهم أخيها ما ذهبت إليه وسارع لمبادلتها بابتسامة سخية وضمها إليه بكل حنانٍ، جعلها تشعر بالدفء بينما قطرات المطر بدأت تتساقط رويداً رويداً على نوافذ الحافلة التي على وشك أن تتوقف في استراحةٍ على ضفاف إحدى المرتفعات الجميلة، تحت ديمات تشرين الواعدة آمالاً وردية، كان هدير الشلالات ضعيفاً، توقف تدفق الماء، لتراكم الثلوج أعلى الجبال، سيعود الشريان للنبض أوائل فصل الربيع، عندما تبدأ الثلوج بالذوبان، لكنه لن يعود معها كما كل عام، تحسست خدها الذي بلله دمع الذكريات، وهمت بالنزول من الحافلة برفقة صديق رحلتها أخيها العائد من شمال أوربا البارد، كانت تشترك معه في حب فصل الخريف لالون واحد لأرصفته، فوضوية شوارعه، داكنةٌ سحبه، ورغم تعري أشجاره كانت تكتسي حياءً بذبولها، ونحافة أغصانها، تماماً كما إحساس المرء بخطيئته، يقف باحثاُ عن تبرير لها وبعض الحياء يكتسي ملامحه..هي تتعرى لتبدو اجمل بعد شهور غير أن الإنسان ليبدو أقبح، فهو يملك إرادة قادرة على كبح جماح معصيته..
كانت الشوارع مبللة بمياه المطر، تأنت في مشيها كما باقي المسافرين الذين بدؤوا بالدخول وتوازع المقاعد التي كانت معدة لاستقبالهم، وكانت الوجبات ساخنة وطازجة مرصوصة أمامهم في منظر يغري بالتهامها، إلا أنها فضلت الاسترسال على الطعام، كانت الخطوات تتسابق إلى داخل الصالة، بينما هي بقيت هادئة في الركن القصي من البهو الزجاجي، وبين يديها فنجان قهوة، أحضرها لها أخيها ورفيق سفرها..
انتهت فترة الاستراحة، ولحقت بالحافلة مع النداء الأخير للتوجه إليها، تأملت الوجوه التي بدت ملامح السرور عليها، وقد امتلأت البطون، تبعها الشاي في الحافلة وهي تتحرك ببطء متابعة رحلتها .. كان الطريق رائعاً للغاية، كلما ابتعدت الحافلة عن البحر، بدت الجبال أجمل، وهي تغوص شيئا فشيئاً بين الضباب، وقد اختفت معالم السفوح والوديان تماماً، تعرجات ضبابية، ومرتفعات ثم منخفضات ثم طريق اسفلتي متعرج بين السهول، ثم روائح الخريف التي أنعشت الأنفاس، والمطر زخات حالمة تتساقط قطرات فوق أرصفة البلدة الساحرة، وصلا أخيراً إلى إحدى المنتجعات الحرارية، وقد لف المنطقة السكون، بينما المساء يتدرج في إسدال ستائره.. في الفندق تناولت مفاتيح غرفتها لتصعد والتعب سيطر على تفكيرها، ألقت بحقيبتها واسترخت فوق السرير، لتنعم بدفء وتستسلم للنوم ..رغم همومها وآلامها الدفينة، والصراع الذي تعيشه، شعرت بوردية الدقائق الساكنة، بين زوايا الغرفة، وفي ردهات الفندق، الذي بدأ صباحه باستقبال أفواج من محبي فصل الخريف، صعدت إلى الطابق العلوي حيث بوفيه الإفطار، منح النوم وجهها رونقاً وردياً، ونظراتها أكثر بريقاً، شعرت بشيء من الحيوية وهي تستقبل أنفاس الخريف، من نوافذ المطعم، كان الشاي لذيذاً للغاية، منح أناملها دفئاً من نوع خاص قطع تأملها اقتراب أخيها الذي بدت عليه ملامح السرور والراحة، تبادلا نظرات ودٍ عميقة، واتجها إلى البوفيه لانتقاء بعض من الأصناف الخفيفة، عندما لمحت طيفه وهو يبتسم لمرافقه، لم يتبدل رغم مرور سنوات الغربة، ماالذي أتى به إلى هذه الفسحة الزمنية، وفي مثل هذا الوقت من السنة؟ لابد وأن شيئاً أقوى من الأيام استدرجه، ليحل ضيفاً ثقيلاً على مكان أرادت أن تكون فيه وحيدة مع الطبيعة..
اِنتهت من تناول فطورها، وبدأت بممارسة أولى نشاطات العطلة، ثمة حركة غير اعتيادية، بين الردهات وعلى ضفاف البحيرة التي تحتفظ بحرارة مياهها بعض الشئ، جلست بالقرب من الينابيع تتأمل حركة الطبيعة وقد حضنت مياه البحيرات المجاورة مختلف الأنواع من أوراق الشجر المتساقط، وقد توسطتها أشعة باهتة للشمس التي أرسلت أشعتها من خلف الغيوم الرمادية، لم تكن المناظر التشرينية محط اهتمامها وهي المثابرة على حب تشرين، فجأة شعرت باقتراب طيف من مكانها سرعان ما اختفى، وهي تهم بالنهوض، ما إن تقدمت خطوتين حتى لمحته يقترب منها، حاولت تجاهله، لكن نظراته كانت أقوى حِدةً من عِنادها، توقفت تتفحص عينيه، فهمت الكثير، لم يأت صدفة ولم يأت لأجلها، أعنف اختبارات القدر، أن يعود وجه من الماضي، شغل مساحات في القلب والعقل ثم اختفى وعندما صادفته، كان لغايات مختلفة تماماً عن توقعاتها، حاول التقرب منها لكن رماح الغدر كانت أسرع، ماهي إلا لحظات حتى سقط في مياه البحيرة التي توسطتها بقع حمراء راحت تكبر شيئاً فشيئاً، كما جرحها الذي حاولت تضميده سنين طويلة، عاد لينزف من جديد ومياه البحيرة تتلون بلونه، وتفيض كما دمعها الثائر، ليتحول كل شيء أحمر الأوراق المتساقطة وقطرات المطر، ولون الأخبار في مختلف وسائل الإعلام..
استمتعت بقراءة هذه المشاهد الرائعة ووصفك الفيّاض ولغة سردك المشوّقة
قصة من وحي الطبيعة بألوانها الجميلة المتغيرة صنعت الحدث
قصة تجعلنا نشارك شخصياتها مشاعرها ،تلك الكشاعر التي أحسسنا من خلالها الهدوء والسكون رغم فيص الاحاسيس
همسة: أرى أنّك لا تهتمين بالشدّة والتي تعتبر في اللغة حرف آخر
أعيدي النظر فيما لوّن بالاحمر
تحياتي