ماذا لو تركتُ قصائدي يتيمة، هل يمسح على رأسها أحد، بهذا الارتداد الداخلي، يُصدِّر الشاعر الناقد عبد الرحيم جداية، ديوانه الجديد « ولادة متأخرة»، الصادر حديثاً عن مكتبة الطلبة الجامعية في إربد، ولسان حاله، الانسجام مع الذات ومصالحتها، والوقوف على ما تتأمّله في سياق المسيرة الأدبية التي قطعها بين مكابدة الشعر وممارسة النقد.
بهذه العبارة وغيرها، يلتفت الشاعر جداية في ديوانه الواقع في 196 صفحة من القطع الوسط، إلى صورة القصيدة وعلاقتها بالمحيط، الأدبي والإنساني والاجتماعي، إذ تنشغل المتون الشعرية التي تضمنها الديوان بكلّ ما له صلة بولادة النص، بدءاً من اللغة، والاتجاه الشعرية، وعبوراً إلى النص وثقافته.
تضمن الديوان، الذي زيّت غلافه الأمامي لوحة للفنان الشاعر محمد العامري، في ثنايا صفحاته 83قصيدة توزعت بين الكلاسيكي والحديث، إضافة إلى تجريبه في حقل المساحة الموسيقية، وانتباهه لما تحدثه مقاربة عدد من التفعيلات المختلفة في نص واحد، فالشاعر لا يصغي للموسيقى إلا في إطار ما تقدمه من تأويلات صوتية قادمة من أعماق النص الشعري، لهذا تراه أحياناً يستدرج الإيقاع الصحراوي، وتارة يبحث في مقامات الإيقاع الحداثي، وأحياناً يُلقي بكل ذلك إلى متاع التجربة، تجربة التجديد التي يضارعها في طريق إنشاء نص جدلي.
« غواية» هي أولى مفردات الديوان، وأوّل بنية إيقاعية صحراوية قائمة على بحر الرمل، تأتي، لتشكل مدخلاً للفضاء التصويري الذي يبحث عنه الشاعر في تجربته الجديدة، فضاء تكتمل معه بنية النص الحركي الذي تتابع معه صورة الذات والآخر، بهذه المفردة يأتي الافتتاح الذي يشرع صفحات الديوان أمام تسريب حكاية الولادة التي يقف عليها الشاعر، ويقف معها على نصوص « لأنها أمي، تحتاجني امرأة أقبلها، لا تعشقيني»، نصوص تؤكد حضور فِعل الولادة بما جبلتْ له، لتحضر بعدها، الولادة في نصوص تتشعب ولكنها تلتقي في سياق التكامل الزمني والمكاني، « سؤال الأمس، وخانني الوقت».
إلى ذلك تحضر في نصوص الديوان صور متنوعة ومختلفة، جميعها تحمل حكاية الولادة الرمزية، ولادة النص الشعري وما يحمله من مصادر ثقافية تنتسب إلى الحاضر المعاش، ومصادر تاريخية ودينية تنتسب إلى ماض يستطرد الشاعر مع غوايته ليكون حاضراً، أو ليشكل حضوراً آخر، من مثل: « يا بنت بلقيس، رقص على جسد الخطيئة، شهقة الطوفان، سطور من غواية يوسف، في حضرة طرفة بن العبد، مناسك في عشق الرسول، أنا لست موسى، وغيرها»
كما تحضر في الديوان صورة للوقوف على الولادات غير الطبيعية التي تنشأ في حاضرنا المرير، مصحوبة بالإنصات إلى القضايا المصيرية التي تتحوّل اتجاهاتها في كل آن، من مثل « صلاة في الخاصرة، ملامح ينكرها المقتول، أشياء لا يعرفها الموتى، أشم عطرك يا عمان، طقوس الرحيل، القدس عاتبة، غني حلباً، ظباء القدس، موج خائن، حصار، الناي الأسير، شمال جنوب، حلب تنادي الله، وغيرها».
ديوان الشاعر جداية الجديد، إضافة لتجربته التي تنوعت بين الشعر والنثر والنقد والفكر، إذ صدر له في الشعر ثمانية دواوين، وفي النثر ثلاثة كتب، وفي النقد كتابان، وفي الفكر كتاب واحد.
يقول الشاعر جداية في قصيدة « تحتاجني امرأة»: « لا تعشقيني يا ابنة الليل المملح بالنجوم، الغانيات الراقصات على يدي، لا تقطفي قمرا تدلى في فمي، لا تعصري عنبي بكفيك الجميلة، واستعنت على النهار بشمسها، لا شمس تشبه ما تباهى من جنون الحلم، إن قطفتْ جناك، مجنون يا قلبي المتيم في الهوى، تهواك أغنية تردد صمتها، فوق الدروب السارحات بلا هدى، لا تشتكي يا قلب عاشقة الخريف، وصفرة تعلو شفاه الشوق، في دنيا صباك».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالتوفيق يا صديقي