مشاعر راسخة
سيطر الخوف عليها، وهي تلقي بنفسها تحت جذع شجرة، نسي الزمن تدوينه في أجندته وترك الرياح تحفر أنينها فوق أخاديده العتيدة، اِقترب منها متلمساً يدها كم كانت مُتعبة، شعر بقلقها وألمها، طبع قبلة أعلى جبينها، وبادلها نظرات الإعجاب، التي سرعان ما بددها صوت زهران الذي اِقترب منهما مُتصنعاً كحةً، يستأذن من خلالها الحديث معهما!
اِقترب منهما باسماً، يريد اقتحام الثواني البائسة التي جمعتهما على غفلةٍ من عناد القدر، الذي ما انفك عن مطاردة أحلامهما، التي بددتها ألسنة أهل الضيعة والمقربين، نظرا إليه بعتب وتساؤل، مالذي رمى به إلى حافة هذا النهر المستلقي على خاصرة أرضٍ رياحها غربية تتوزع فيها بتلات القطن كما لآلئ تنتظر قطافها، ذات موسمٍ بينما ضحكات الصبايا تتعالى مرحة وهي تئن همساً من شوكة علقت بين أصابعها فأدمتها!
فهم وهران نظراتها، بينما أطرقت خجلاً، تريد للثواني الإندحار، ولعجلة الزمن التوقف.نظرت إليه متوسلة، بأن لا يُذيع نبأ لقائه بها..لكن احمد سرعان ما قطع توسلاتها بأن أفهم زهران أنه يحبها، ويريدها له.
اِبتعد زهران عن المكان الحالم، تاركاً لهما مساحةً من الحرية، يمارسان خلالها طقوس الإنفراد وتقاسم الهموم التي جمعتهما.بينما نهض أحمد ممسكاً بيدها يدعوها لاستكمال نزهتهما بين أشجار السرو الحور التي توازعت أطراف الوادي وضفاف النهر..
توغلا في المسير تاركين لخطواتهما اختيار الطريق، بين روائح العوسج والزيزفون والزعتر البري كانت تصغي لكل مايقوله، كأن ذاكرتها خلت من كل شيء لأجل أن تحتفظ بكلماته في طياتها، نسيت أبجدية الكلام، تاركة لأبجديته خط سطورها كيفما يشاء، وراحت بكل خجل تخط حرفاً من اسمها بأناملها الرقيقة، ثم تدعوه لمتابعة المسير.بحركة من عينيها الشاردتين، اللتين حفظتا عهده رغم انقطاع لقاءاتهما بعد ذلك سنين طويلة، كان يرقبها من بعيد دون ان تعلم، عتبت على عينيه ذات لقاء كيف طاوعه قلبه على ترك مساحات الحزن تتوغل كثيراً في ملامحها، لم يخبرها يوماً بأنه كان يراقب خطواتها، وبأنها مازالت تلك الشاردة التي يحن إليها من آن لآخر. كانت تمر من تلك الشوارع التي احتضنت طفولتها صادفت عوسجة وعصفوراً يغرد على أحد الأغصان التي تنتظر عودة الربيع، كان يئن برداً كما هي تئن شوقاً، على مقربة من الرصيف المؤدي لمنزلها التقت بعينيه، وبح صوتها، كانت المصافحة صعبة والكلمات اِستسلمت لصمت الشفاه، غارت في أعماقها، ياأنتِ.. ياأنت.. وتابعت المسير!عاتبة على القدر وعاتبة عليه، كيف له أن يتركها حزينة تغرق في بئر من المآسي.. كيف يسمح لنفسه ممارسة طقوس الرقص مع آخرى، وكيف لها ممارسة رهبنة المشاعر لأجله هو؟! دخلت منزلها البارد وألقت بمفايتح الباب فوق طاولتها، مستسلمة لليأس متسائلة كيف له أن يتركها تغرق وحيدة في بحرأحزانها..