رجل في حياتي
بقلم / عطاف سالم
14 / 7 / 1431هـ
حمداً لله أنني حظيت بسماع صوته الأثير عندي قبل وفاته بسنوات وذلك عندما كنت أدرس في المرحلة الثانوية ومن قبل كنت أقرأ مؤلفاته بشغف , وأستمع إلى برامجه دون ملل أو كلل .. ولم يزل أثره باقياً في ضميري ووجداني وفكري حتى هذه اللحظة وحتى مماتي !
تأخذني – دون مجاملة – برامجه إلى روضات من الجنة علماً وثقافة وأدباً وتربية
- والجلوس بين يدى العلماء والأدباء والأخذ منهم من أسباب شرح الصدر كماهو معلوم -
كان رجلاً مؤثراً بأدبه , وبمؤلفاته , وأخلاقه , وثقافته المتنوعة , وحتى بنبرته , واستطراداته في أحاديثه وبرامجه ومقالاته ..
وترسخ له في الذهن العديد من العبارات الأدبية والتربوية الجادة والخالدة ..
عندما تكون على مائدته تجد مالذ وطاب من الكلام فقهاً وعقيدة وأدباً وشعراً ولغة ونقداً وتفسيراً وأحاديث وتاريخاً وتراجم وفناً وموسيقى فبالكاد تحاول أن تهضم مايقوله أمامك إلا وتجد نفسك قد جعت إلى حديث آخر ..
كان براً , رؤوفاً شفوقاً , بل يحمل كل ماتحمله لفظة إنسان من الرحمة والإنسانية والذوق الرفيع .
جرني إلى هذا الحديث عنه الليلة استماعي أول أمس لحلقات قديمة مسجلة عنه في حوار خاص مع الإعلامي الشهير ماجد الشبل في برنامج رمضاني كان يذاع يومياً بعنوان ( ضيف السهرة ) ولاعلم لي بسنة إذاعته , ولا أتذكر هذا مع الأسف الشديد !
كل ما أعرفه أنه رجل سكن القلوب بأحاديثه , ونال محبة الكثيرين من القراء والمستمعين والمشاهدين
كان قريباً إلى الناس عامة ودوداً متواضعاً وبسيطاً وعلى سجيته وعفويته , وفي نفس الوقت كان ذا شخصية قوية وجذابة لاتخشى في الحق لومة لائم يميزه ذكاء ملحوظ وسرعة بديهة وذهن حاضر وأفق واسع وفهم نيّر وبصيرة حادة ..
كان مؤمناً برسالته , وله أهداف دعوية وإنسانية وأدبية واضحة يحاول تحقيقها وإيصالها إلى العالم ..
كان محباً لدينه حريصاً عليه وداعياً إليه , وكذا للغته وتراثه ووطنه الأصل ثم وطنه الثاني الذي قضى فيه بقية أيامه حتى توفي يرحمه الله تعالى .
ماقرأت كتاباً يوضح مفهوم الإسلام في لغة أدبية رفيعة وسهلة أفضل من كتابه ( تعريف عام بدين الإسلام ) !
الذي لو كتبه أحد رجال الدين المتخصصين لما لقي قبولاً عند أحد
- وما أجمل , وما أروع أن يكون رجل الدين أديباً !
وأن يكون رجل الأدب ديّناً ! -
ولارأيت كتاباً مسيطراً عليّ أفضل من كتابه ( فكر ومباحث ) !
ولاتلذذّت بقضاء أطول وقت في القراءة إلا في كتابيه ( حديث النفس , وصور وخواطر ) !
رحمة الله تعالى عليه , أكتب ماتقرؤون الآن وعينيّ تلمعان بالدمع , وقلبي يلهج له بالدعاء وهو أحب مايكون إليه وأفضل مايرجوه ومايتمناه من محبيه بعد وفاته كما يصرح بذلك كثيراً في أحاديثه وكتاباته ولقاءاته
ولو كنت في تلك الأيام بمثل عمري اليوم لماتركت فرصة بقائه في مكة المكرمة تذهب عليّ سدى دون الاستفادة من علمه وأدبه ونظرياته وآرائه في الشعر وفي النقد وفي الأدب بكل أجناسه ..
لطالما تحدث عن اللحن اللغوي , وعن الغموض في الشعر , وعن العروض , والمذاهب الأدبية والنقدية الحديثة والقديمة , وعن مكانة اللغة العربية بين اللغات حتى أنه وضعها لأكثر من مئة سبب في الدرجة الأولى وجعل الدرجة الثانية والثالثة بعدها شاغره ثم ذكر الفرنسية في الرابعة والألمانية في الخامسة ثم قال لو أن هناك درجة أخيرة لأتت فيها اللغة الإنجليزية لأسباب وجيهة كان قد ذكرها وأقنع بها القراء والمستمعين بأسلوبه المعهود قوة وجزالة في عفوية وسلاسة وبساطة , يتحدث إليك ومعك وكأنك أحد أقربائه أو من أسرته !
لا أدري هكذا جاء مقالي عنه دون أن أذكر اسمه في بداية هذا المقال الذاتي ولعلكم عرفتموه من أسماء بعض مؤلفاته التي ذكرت , والإلماع إلى بعض سماته التي أشرت
هي صفحة وفاء وبر وولاء لهذا الاسم الذي أثر فيّ كثيراً بكل شيء
اسماً وصوتاً وعلماً وكتباً ولقاءات , وارتبط في ذهني بالعديد من الذكريات الجميلة والعاطرة الطاهرة , والكثير من المواقف الجادة والنبيلة , وعلق في وجداني وأدبي بنصوصه وكلامه وخلقه .
عرفت اسمه وأنا طفلة إذ وعيت على برامجه المثيرة والمدهشة والمؤثرة والأكثر من ساحرة ورائعة في التلفزيون السعودي القناة الأولى ..
ولما كبرت ووصلت بداية المرحلة الثانوية لا أتذكر كيف حصلت على رقمه واتصلت به لأساله عن حكم تأخير صلاة العشاء - وماكنت أظنه آنذاك غير أنه مفتي فقط – وكنت غير مصدقة أنني أسمع صوت هذا الرجل الذي أراه يومياً على شاشة التلفزيون ( أو الرائي كما يحب أن يسميه ) * وأسمعه كذلك يومياً مع أبي – يرحمه الله – عبر المذياع
ثم تعرفت عليه أديباً كبيراً وعلماً يشار له بالبنان وله في الأدب بكل فنونه باعٌ طويل فيما بعد فعكفت على قراءة كلّ مؤلفاته شغفاً برفيع قلمه وقلبه ..
وهاأنذا الآن أتذكره بعد مضي إحدى عشرة سنة على وفاته إذ توفي رحمه الله في يوم الجمعة الموافق لليوم الرابع من ربيع الأول 1420 هـ
12 يوليو 1999هـ
إنه الشيخ الفاضل , والقاضي , والمؤرخ , والأديب علي مصطفى الطنطاوي يرحمه الله تعالى , ويسكنه الدرجات العلا من الجنة , ويجزاه الله عن الإسلام والمسلمين وعما قدم من خير ونفع لدينه وأمته ولغته ووطنه الجزاء الأوفى ..
وجمعنا الله به في مجلس علمه وأدبه في جناته جنات الخلود .
آمين يارب العالمين
/
/
عطاف سالم
_______________
* كان يميل إلى تعريب بعض المفردات الدخيلة على لغتنا العربية إنما لم يكن متعصباً لذلك كثيراً , إذ رفض تعريب كلمة (الفاكس ) إلى ( الناسوخ ) مثلا لأن الذائقة العربية تمج هذه المفردة صوتاً ومبنى , ولايمكن أن تستسيغها أو تتقبلها