عزيزتي الغالية :
في هذا الصباح .. كنت قد قررت أخيراً أن أبتسم .. وكنت على وشك أن أخبركِ بذلك .. قضيت ساعات طوال في تصفح الانترنت ، وقرأت مئات المواضيع عن علامات الجسد ، لكي أستطيع رسم ابتسامة مقنعة على وجهي ، وفي لحظة تأمل وسكون ، رأيت ومضة خاطفة جعلتني أرى بأن الجسد مجرد إنعكاس لا أكثر ولا أقل ، ظل لصورة أخرى أصيلة موجودة في مكان ما .. إختفت رغبتي بالابتسام نهائياً .. وهرعت أبحث عن ما يؤيد اكتشافي الجديد ..تذكرت صدى من قصة قرأتها في شبابي لرتشارد باخ ، جملة قصيرة كتبت على الغلاف ... ولكنها بالفعل كانت معلقة على باب ذاكرتي تقول ...( جسدك فكرتك عنه ) ...
إذا أنا فكرة في مكان ما .. وجسدي مجرد إنعاس لتلك الفكرة .. وإذا تغيرت أفكاري تغير جسدي !!
رباه ... هكذا تفضحنا أجسادنا هكذا نجعلها تصنعنا بدلاً من أن نصنعها ... لن أكتب لك الآن .. تعرفين بأن لك جسداً مقدساً... أوه ... اعتذر منك .. كل الأجساد عندي مقدسة ، ولكن تعلقي بجسدك كان يرخي عليّ سدول ظلمة قاسية .. الجسد مادة ظلمانية كثيفة من عالم داني ... الروح عنصر نوراني خفيف من عالم أسمى .. نزلت أليك من المحل الأرفع ..
يا ويلي ..
كل هذا الوقت كنت مخدوعاً بفلسفات التصوف .. وكنت أحارب جسدي بلا هوادة ، نعم هو جهاد النفس ، الجسد رذيلة يجب معاقبتها ، سجن يجب التخلص من براثنهِ ، ثوب معتم يجب التعري منه ..
والحقيقة أن أرواحنا تنصهر عند عتبة الجسد العاري ، وتهدأ عند صورة الجمال ، وتنجذب بلا شعور للتجول بل للمكوث هناك ..
أذا لا ذنب لي معك عزيزتي .. دعيني أكمل بحثي ، لأرى من هو المقدس عندي روحكِ أم جسدكِ ؟ وهل أنا آثم أم قديس؟ هل أحبكِ أم أعشقكِ ؟ من يكذب على من ؟ وعلى أي صورة من جَمالكِ تتقد جمرتي !!
تخيلت بأني اشطب جميع الأجساد بفكرة واحدة ، دخلت إلى عالم مجرد لم يكن به صور أصلا ، اكتشفت هناك بأن الصورة كانت نتاج الجسد ، كل شيء كان بشكل أمواج متحركة ، لم أجد شيء اسمه مكان أو زمان ، كان الكل حاضر مرة واحدة ، حتى أنتي كنتِ حولي لحظة بلحظة أو أنا كنتُ حولكِ أو الكل حول الكل لا أعرف ، عرفت بأنكِ معي والسلام ..
أذا هل هذه هي الحقيقة ، نحنُ مجرد أرقام في معادلة غريبة ؟
أخيراً عرفتُ الحقيقة ودخلت إلى العالم الأصلي ، جلست هناك كموجة وحيدة ، ولكن كنت كمن يحمل كل أحزان العالم على كتفيهِ ،
رباه .... لا أريد الحقيقة ، لم تكن لدي سوى رغبة بسيطة في الابتسام ، والآن أنا عالق في عالم لا فرق فيه بين الذرة والمجرة ، حاولت جاهداً أن أتخيل جسدكِ الغض ، لعلك الرذيلة تنقذني من الفضيلة ، ولعل الظلام ينجيني من نور لا أرى فيه إنسان .. عبثاً حاولت ، أن أتذكر شكلكِ ، أن أتخيلكِ ، ولكن الصورة لا تدخل هنا في هذا العالم ولا فرق بين نور وظلام ..
وهنا فقط قلت رحمكَ الله زرادشت ، أعتقد بأنك كنت جالساً هنا لفترة طويلة ، حتى اكتشفت طريقة للخروج ، ولكن كيف خرجت من هنا لتقسم العالم إلى قسمين ؟ لمن الأصالة للنور أم للظلام ، دلني يا صديقي ، فأنا وأنت في ورطة واحدة ..
أنها تنتظرني هناك بِكلها ، روحها وجسدها ..وحتى جسدي لا أعرف ما حل به ، هل هو حي أم ميت .
آآآآآآآآه .... كم أتوق لذلك الجسد ، لم أشعر بأني أحبه هكذا من قبل ، لقد علموني أنه رذيله يجب سترها ، وقالوا بان الرب يقول ذلك .. وهاأنذا معك مجرد أمواج تتحرك ، أمواج باردة تسير بانتظام ممل ، وكأنني في كوليس حفلة مرعبة ،
في احد الأيام تعطل حاسوبي ، قالوا لي إن الخلل بنظام الدوز ،عندها عرفت بأن ما نراه على الشاشة مجرد صورة خيالية ليس لها وجود حقيقي ، وجودها الحقيقة هذه الخربشات والرموز في الشاشة السوداء ، يا ربي ... هل دخلت أنا بالخطأ إلى نظام الكون الأصلي ؟
أريد جسدي أريد روحي ، أنا لست رمزاً في معادلة مجهولة ،
وأريدكِ لأني أحبك عزيزتي ، هل كان من الضروري جداً لك أن ابتسم ؟ لو كنت قبلتيني كما أنا لكنت قد بقيتُ غافلاً في عالمي ، أعشق الوصول إلى الحقيقة .
اخبرني يا صديقي زرادشت ، هل هذا ما يسمى العماء ؟ أو عنقاء مغرب ؟ أو الهيولي ؟
كيف تأتون بهذه الأسماء ، تباً لكم أيها الفلاسفة لم أكن أعرف أن الحقيقة بهذه البساطة ، والآن فقدت حتى قدرتي على التخيل ، لا اعرف من أنا ، ربما موجة تائه ،
في أحد الأيام جلبت عصا يابسة ، غرزتها في الطين وقلت لها ، كوني .. كوني شجرة خضراء ..ولكن شيا لم يحدث ! رجعت إلى كتابي وقرأت من جديد .." عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون " صرخت بكلي : كوني شجرة خضراء .. فلم يحصل شيء سوى التهاب في الحنجرة .. كم كنت غبياً .. كانت لدي مخيلة أمتلك بها السماء وأخلق بها كل ما أريد حتى بدون أن أنطق بكلمة كوني ..والآن أنا عالق مع زرادشت بلا روح أو جسد ..
كيف سأخرج من هنا عزيزتي ؟
أنا إنسان ولست موجة ... أخبريني
بالتأكيد لن تخبريني .. أنا وأنت من عالمين مختلفين .. سأقول لك شيء .. شعرت بزرادشت قربي كان موجة كباقي الأمواج ، كل شيء متشابه هنا ، عندها فقط كشف السر ، أنا موجة واحدة في حزمة كبيرة ، وهذه الحزمة في حزمة أكبر حتى المالانهاية ، إذاً أنا غير موجود في عالم الأمواج هذا ...
برافو ... تصفيق ..
عرفت الحقيقة .. لا يوجد هنا ..أنا .. الوجود الحقيقي ..نحن .. أنا لا شيء ..هذا عالم التوحيد .. كلنا واحد موجة واحدة .. عندها فقط رأيت زرادشت يمد يده ويخرجني وهو يقول .. إذاً عرفت الحقيقة !! كان هذا الكشف يمثل انتصاراً لنا جميعاً .
عندما عدت بالسلامة .. قررت الذهاب إلى كارل غوستاف يونك ..لأقول له .. يا صديقي كنت هناك .. في عالم الوعي الجمعي ..أنت على حق أخيراً ، ليذهب فرويد إلى الجحيم ..
هل فهمتي شيء ؟
طيب الآن كلنا واحد في الأصل ، لذلك يجب أن نؤمن بالحب للجميع ، لأن الجميع هو أنا بشكل أخر ، واستقلالنا مجرد وهم ،هل فهمتي الآن ماذا يريد الأنبياء ؟
.. هل تذكرين عندما كان أحدهم يتكلم عن التحريف في الكتب المقدسة ، ماذا قلتُ له ..أكيد تذكرين أخبرتك برأيي حول ذلك ، لله كتاب لا يقبل المجادلة ، طبعة ثابتة منذ الأزل ، كل يوم نقرأ كتاب الطبيعة ، ولكن نحن مشغولون بتفسير التفاسير وشرح الشروح ، لذلك عندما قتل أبن آدم أخيه لم يعلمه الله طريقة الدفن من خلال كتاب أو وحي ، بل جعله يتعلم من الغراب ، هل تفهمين كل شيء يتحرك في قبضة الله ، وكل ذرة في جبل كلمة في الكتاب .. هكذا لم أعد كما كنت سابقاً ، أصبح لكل شيء معنى ، أصبحت النملة صديقتي ، زرادشت مسرور بذلك ، أخبرني أن الظلمة نور غير مكتشف ، وأنا أخبرته بان بحثي سيتوقف عن الحقيقة ، سألبس جسدي وأسير في الأسواق ..درجة الحرارة في بلدي نصف درجة الغليان ، مع ذلك لي جسداً مسروراً به .
هل تفهمين .. أم أصرخ وسط الشارع .. جسدكِ مهم عندي ...
من يريدني كلي أريدهُ كلهُ .. أنا غير قابل للتجزئة ، هكذا علمني الشرق أن أفكر .. في أول شبابي ، قرأت كتاب ( هكذا تكلم زرادشت ) لنيتشه .. طبعاً لم أفهم شيء منه ، ولكن كان يجب أن أقرأ لنيتشه حتى أثبت بأني مثقف !!
نيتشه لم يطفئ الجمرة بداخلي ، فكان كأنه لم يكن ، حتى أنقذني الرائع هرمان هسة عندما قرأت له (سدهارتا ) وهكذا عرفت من هو بوذا ، ومن هو المستنير ، كنت أجلس الساعات مع صديقي الشاعر الذي أصبح أسماً لامعاً في جيل الثمانينات الشعري ، يقرأ لي قصيدة النثر كما لم أسمعها من قبل ، سعدي يوسف ، سركول بولص ، أدونيس ، ولكن عيني كانت تعشق كتبه فقط ، النفري والمواقف والمخاطبات ، فصوص الحكم وبن العربي الذي جعلني أذوب عرفاناً ، الحلاج وطواسينه ، والسهروري وحكمة الإشراق ، وزغب أجنحة جبرائيل .
لماذا زرادشت ... ؟
لأنه أول من فصل الشر عن الخير ، وأعطى بهذه الثنوية أول خطوة نحو التوحيد ،
والآن أقول لك لماذا نبذت فردانية الغرب ، ومجمع آلهتهِ الإغريقية ، وجذبني سحر الشرق وكلانيته الشاملة ..
هل فهمتي ..
أنا لست موضوعاً للتسلية ، ولا أبيع كلي ببعضي ، حتى وأن غدوت أمامك طفلاً ، لم يشعرني ذلك بالخجل ، ولكن حذار من غضبي ، الطفل يأخذ ما يريد ليس بالبكاء فقط ، هناك العناد أيضاً ..
المرأة .. كيان كلي مصممة بتناغم مع الكون ، لذلك أكتب أليك ، وليس لشخص آخر ، لم تفهمي بعد !!
لو فهمتي بأننا لا نملك أشيائنا بل هي من تملكنا ، لما حصل ما حصل ، ولكن ماذا حصل ؟
لم تلتقطي أفكاري عندما كانت منثورة على شعرك ، لم تعرفي بأن ذاكرتي لا تحمل الآن سوى صورة نعاسك ، وبقايا أمل مكبوت ، وبداية عشق مقتول ، فردانية غربية ، ليس لك ذنب فيها ، أنا أنتمي للجهة الأخرى من الأرض ، جهة الدماغ الأيمن ، جهة الشعر والحب واللون ، وأنتي تريدنها لك فقط ، هذا ما اسميه الأنانية المتوحشة .
خلايانا مستقلة في عملها لكنها جميعاً تكون الجسد ، هل تعرفين ماذا يعني الجسد الواحد ؟
هراء لا تعرفين شيء ، ستربحين أوراقاً فارغة وجسداً بارداً ، لذلك ستطرقين بابي وتدخلين ولكن ستجدين شخصاً آخر ، رجلاً كاملاً يسير بين خطين أحمرين ، لن تجدي الطفل الشقي ، لأنه اختفى هناك باحثاً عن أم تفهم لغته وتحنو عليه ، لا تفهمين بعد الطفل بحاجة للبكاء دائماً .
سألني أحدهم وكان يدعي التصوف ، من أنت ؟
قلت له أنا مشروع إنسان ، لم يكن يفهم بأني لسست ضد مقولة من عرف نفسه عرف ربه ، ولكن هناك فرق بين أن نعتقد وبين أن نستورد الاعتقاد ، لذلك سأبقى مجرد مشروع حتى أفهم كل شيء بنفسي ، نظر إلي بنظرة غضب وكأني دخلت لمنطقة محرمة ، ولكني قلت له بصلابة ، من اليوم لن أقبل بالأطعمة الجاهزة ، أريد طبخ كل شيء بنفسي ،
هذا اليوم كان يوماً مميزاً ، تخلصت من سلطة رجال الكهنوت ، وبقيت أنظر إلى مجمع الكهنة مثل ببغاوات تردد نفس الكلام ، هل من المعقول أن الله قال بعض الكلام ثم سكت !!
عندما أسألهم يقولون كل قول أو فعل في الحياة رسمته السماء ، لكل شيء لهم فيه رأي ، ولكن هل هو رأيهم أم رأي السماء ؟
يوماً بعد يوم عرفت أن الدين صناعة السماء ولكن فهم الدين هو صناعة البشر ، ونحن نتبع أفكار وأفكار متضاربة تصنعنا وتقولبنا ، كل علومنا الدينية نأخذها بالتلقين ممنوع التفكير والتأويل ، عقولنا غير مستعدة بعد ، يجب أن ندرس ألف علم وعلم لنستطيع تفسير الكتاب ، وهذا ما جعلني أقرأ الكتاب البسيط الكتاب المطبوع بدون شرح بشري ، كتاب الحيمن والبويضة ، والمتك والميسم ، كتاب الجمال والحب ، هي فلسفة الطبيعة ، وكيف خلق الله الأشياء .
من هنا بدأت أشعر بأن علاقتي معك علاقة شرعية ، أفكاري الناضجة لا تحتاج إلى من يعطيني الجواز بالدخول ، حريتي لم اكسبها من دعاوى التمرد على الواجبات ، ولكني حصلت عليها عندما طبقت تلك الواجبات بعمق ، وأنت تذكرين ذلك اليوم الذي قررت فيه أن أمشي على الماء ، أذا كان بعض الأنبياء فعل ذلك فلماذا لا استطيع أنا ، هل ذلك شيء خطير ؟ الآلاف يعبرون المحيطات كل يوم بالبواخر العملاقة هذه معجزة أكبر من معجزة عبور شخص واحد ،علاقتي معك لا تحددها الكلمات أو الطقوس ، حتى لو لم تخضع لبعض قوانين البشر ، أنت تعرفين بأني مازلت مجرد مشروع قيد التنفيذ .