سارق لحظات السعادة
بقلم : سفانة بنت ابن الشاطئ
الشارع يكَاد يختَنِق ازدحامًا، كُل شيئ رتِيب وعَادي.. لَبس عَرش السَّماء ثَوبه الأَزرَق المَلَكِي وتَربَعَت الشَّمسُ عَلى عَرشهَا بهَيبَتِها المُعتَادة وتَركت جَدائلها الذهبية تتَرنَّح في كل مكَان،تُداعب قُلوبا جَار مَلِك الحُب عَلَيْهَا، فَأَرخَى الحُزن واليَأس، لَعَلها تَنجَح في بَثِّ بَعض الدِّفْءِ وشَيْئًا مِن الأَمَل المَفْقُودِ و فَرحَة تُسْرَق من بَرَاثِن الزَّمَن.
تَسَمَّرَت فِي مَكَانِهَا عندما لَمَحت طَيْفًا بَعيدًا يتجه نَحوها ,تَسَارعت مع حركته دَقَّات قلبها،وارتسمت عَلى وجْنَتَيها ألْوَان الشَّفَق،لتَسْرق مِن الوَقت دَقَائِق إضَافِية، يحملها إليه شوق يقفز كالطفل كلما ازداد عزف دقات القلب المحملة بعبير اللهفة كأول لقاء كان بينهما..!!
فَهِي التي تَنام تَحلم باللِّقاء، وتسْتيقظ جَوَارِحها على سؤال مكرور هل سأراه؟ متى وكيف؟؟.
اقْتَربت أكثر وعينَاها تُسافران في أدقِ التفاصيل، بَادرت بالتَّحية، لكن حروف الأَبْجدية نَضبت
فَجأة وكَأن شَفتيها لم تعْتدا على الكَلام قط ، رغْبة مُلحة طْرقت بَابَ مَشَاعِرها أَلْجمتهَا بحَزم، وانْتَظرته ليُبَادر، ردَّ السَّلام وشَوق ضَبَابِي يَتَرجَل بَعيدا، لَكِن عَينيه كَانتا أكثَر وضُوحًا وتلميحا،
أوشَكَتَ شفتاه عَلَى التَّصريح بالكثير .. إلاَّ أنَّ بَحْره الغَامِض كبح اندفاعه وسيطر على إيقاع مشاعره .
كم تاقت لسمَاع أنغام عشقه وهيامه ليتراقص فَارسَا الوَجْد والحلْم،لَكِن كَعَادته كثيرا ما يفاجئها بتصرفاته الغريبة ..! يُقْبل نَحْوهَا فَجأة يَهْطل كَالمَطَر يَسْقي رُوحَهَا العطشى بِوابل من الكلمات وأسْمَا المَشَاعِر، وكثيرا ما كان يتستر خلف قناع من الكَلمات المبهمة أو يصْدمَها بتعَابير أقْرب إلى التَّجْريح..! ثَورةٌ تَجْتَاحه فَجْأة !! يُفَجرفيها بُركَانا مِن الحُزن يُرافِقه سيل من عبراتها. على هذا النحو كانت علاقتهما تجمع كل التناقضات..
دام الصمت بينهما للحظات، لم تتردد عقارب الزمن من إطالته..! لتمرتلك الدقائق دهرا.. كَسره سؤالها وهي ترسم ابتسامة كبريق القمر في هزيع الليل
قالت: "كيف حالك اليوم؟"
رد باقتضاب: "الحمد لله، وأنت؟"
ردت: "الحمد لله بخير " ..
توقف مَحتوم لا بد من إجتيازه.. حالة من الصمت تخنق مساماتها، تسابق دقات قلبها لتصل حدود الكون.. بينما الحرارة تستغيث من و جنتيها وبريق لؤلؤٍ يتوسط عينيها .. طال الانتظار..وبدأ مؤشر التوتر بالإرتفاع.. أناملها تتخبط ، أما هو كاد الكلام المسجون بين الأجفان والأهداب أن يتدفق شلالا..،لتكسر حاجزالصمت، تفك أصفاد الكلمات التي ظلمها مزاجه الغريب المدمر للأعصاب.
فقد أنهكها تقلباته، ليجثم الصمت الطفيلي على عقارب الزمن، ويقتات على نبضها بشراهة،
فكلاهما ينتظر المبادرة منه.. أخيرا طُرد هذا الضيف الثقيل عن مائدة اللقاء،وبادرهو بالسؤال:
"كيف كان يومك؟" ردت بسرعة وبعفوية متناهية:
"لا بأس.. لا شيء غير عادي.. وأنت؟
" قال: "وأنا أيضا كل شيء جيد.. أعمالي تسير بخير ولا جديد آخر"
وعاد الصمت من جديد يفرض نفسه,لكنها قررت إبعاده قبل أن تطول إقامته ، وتزيد رهبته،فتحت نافذة جديدة لعلها تكون بداية لحوارطويل، فقد تعودت على حواراته المتدرجة على سلم الأعصاب
وقالت: "هل تعلم؟.. بالأمس ذهبت إلى المركز الثقافي لاقتناء بعض الكتب المهمة..."وهنا توقفت قليلا تنتظر منه تعليقا أوحتى سؤال،
وإذ به يفاجئها قائلا : "هذا شأنك عزيزتي، ما دخلي أنا بما تقومين به؟ .. أنت حرة، اذهبي أينما تريدين ..أتمنى لك التوفيق." .. طأطأ رأسه قليلا، ثم واصل:
" أعتذر، ورائي أعمال كثيرة وانشغالات مهمة.. أستودعك الله.. نلتقي قريبا"..
حاصر الصمت دقائق أو أكثر وعينيها شاخصتين نحوه بشرود وطيفه يتلاشى بعيدا ويذوب بين المارين كقطعة سكر.. لكن ابتسامتها لم تبارح المكان وإن بدت اقرب لإبتسامة الموناليزا بغرابتها فقد تغير لونها وطعمها.
بخطوات متثاقلة عادت إلى منزلها تجر لوعة وخيبة وأمل مبهم، لم يتحمل قلبها ما حدث رغم أن الموقف لم يكن الأول ولن يكون الأخير..اغرورقت عيناها بدموع الحسرة وشريط اللقاء يتكرر أمامها، شتان بين ما في قلبه وما على لسانه، وبين حبه وبين تصرفاته. دوامة التساؤل تأخذها..!! حب كبير تشعر بحرارته،وعشق حدد يوما معالمه حين قال:
"أعشقك فوق الوصف وإعجابي بك تعدى الوجود، احفظي كلامي جيدا فهذا أساسي لعلاقتنا."
لكن تصرفاته تجعلها دوما تهيم بين الأفكار ، تترنح بين القرب والبعد، بين الصح والخطأ،و بين الحب و الاَّ حب.. فحياتها قد ضُرب فيها زلزال قلب كل موازينها، بل غيرمعالم كثيرة ومواقع ملأها هو بحبه.
ساعات مرت من الوجوم والحيرة..ارتدى محياها ثوب حزن داكن ..واقتحم جوارحها رسول الغضب.. نعم مزيج من كل هذا اجتاح هدوءها المعهود، ورزانتها المدججة،وصبرها الطويل..
قاطع كل هذا رنين الهاتف ليهتف قلبها.. "هو إنه هو..!!" عرفته من رنة هاتفها المخصصة لرقمه..!! أغنية أهداها لها في أول يوم شهد ولادة حبهما، بيد مرتعشة وفرحة تسربت خجولة لوجهها، استلت الهاتف وفتحت الخط، وصوت تنهداتها يعلو فوق كل شيء، وقالت:
"ألو"
قال: "ألو.. مساء الخير، أنت معي آنستي؟"
قالت بصوت حنون: "نعم، هذه أنا اسعد الله مساؤك، كيف حالك؟
قال: "جيد .. الحمد لله.. كل شيء على ما يرام.. وأنت؟
قالت: "وأنا أيضا.. الحمد لله" وصمتت على غير عادتها، فاسترسل
قائلا: "ما أخبار الكتب التي اقتنيتها؟ هل بدأت بقراءة أحدها؟
فردت بدهشة: "لا، لم أبدأ بعد..كيف ..؟" وتوقفت الحروف مرة أخرى..
وهنا انطلقت بنات أفكارها تردد في عقلها الباطن " كيف تريدها أن تغذيني، وأنت تمتص كل الغذاء وتتنفس كل الهواء وتلبس كل جديد وجميل عني؟؟ " واستدركت لتبدو طبيعية قائلة:
"هل تعلم ؟ صراحة لم أتوقع أن ألقى في المركز كل هذا الاهتمام.. لقد استُقبلتُ بحفاوة، فغيابي عنهم طال هذه المرة" رد قائلا:
" أتمنى لك التوفيق .. لا تتغيبي مرة أخرى .. هو مكان مهم .. ستستفيدين من تواجدك فيه .واستطرد قائلا
"على كل، أستأذنك الآن، لدي بعض المشاغل لم أنهها ..أتمنى لك دائما مزيدا من التألق..
وبقية يوم موفق" ردت باستغراب يطبق على جوارحها
"هل هذا كل ما أردته من اتصالك ؟ دائما توقعاتي تكون عكس تصرفاتك!"
غصت الكلمات واختنقت الجمل.. لم تعد تسمع إلا أنين قلبها.. فقد طارت السعادة التي ارتسمت فجأة " باتصال هاتفي واهتمام وسؤال ".. لكن كل شيء ذُبح عند آخر الكلام،وهنا انطلقت موجات متتالية من الدموع تحرق بعضا من مراكب الأمل، فقد تركتها رهينة المعتقل منذ الصباح.. لينشط حديث الروح فيعلو صوته فوق كل شيئ .. ويدفع حزنها نحو تساؤلات كئيبة:
"ما هذا الحب الذي تعثرتِ به بنيتي .. كانت حياتك منسجمة الإيقاع، ودنياك شمسها مشرقة،وقمر ليلك كان كاشتياق عاشق..!!" فردت هامسة
"لا أعلم أهو عقاب من رب خذلته أيام ..؟ أم هو نصيبي من الزمن أن ألتقي بأغرب عاشق..
حبه ولع .. وفك شيفرته وجع.. يتفنن في سرقة لحظات السعادة..! قربه وحبه جنون .. بعده ونسيانه نعمة،لكنها أكبر المِحَن، حاولت الانشغال بأمور كثيرة في نفس الوقت والابتعاد.. واسترسلت تخاطب من سكن قلبها وتملكه.. ولكن بحسرة ويأس:
"سرقتَ السعادةَ من لحظاتي ، فهل قلبك الآن سعيد؟.. وعيشك رغيد؟ ..وعمرك أصبح مديد..؟ قل لي يااااامن تسرق من حياتي حتى أنفاسي؛ هل أنت لص بالعادة أم امتهنت السرقة عندما طرق حبي باب قلبك؟؟ قلبك الذي أغلقته بإحكام منذ زمن.. ورميت مفاتيحه في بئر سحيق حصنته من أي هجوم يخترقه.. إلا حبي عجِزَت كل أسلحتك عن صدِهِ أو ردِه أو رفضهِ..واقتحم حصونك المنيعة واستوطن بتؤدة كل أجزائه.. رُغمًا عنك.. هذا باعترافك أنت، وليس من نسج خيالي، إلا الحاشية تركتها كما كانت دوما مرتعًا لكل عابرة سبيل!!
فلماذا إذا تستكثر علي لحظات من السعادة ؟؟ وتتلذذ بشعورالحزن الذي ينتابني كلما وجهت سهام كلامك القاتل إلى مشاعري وأحاسيسي..".
وانسابت كلماته التي باح بها ذات لقاء : "أعلم أنك تنتظرين مني كلاما جميلا، وتصرفات أجمل، ونبلا نادرا،لأنك تستحقينه.. لكن لا أعلم لمَ أشعر دوما برغبة ملحة لكبح مشاعري أمامك.. لماذا أحب أن أحرِمك من لحظات سعادة أنا أيضا أتمناها صدقًا لا أعلم .. حبيبتي اتركيني لسجيتي..
ربما لأني أحب أن اقتحم أنامشاعرك وقت أشاء .. وأفاجئك بين الحين والحين.. أن أرسم بيدي الضحكة على شفتيك.. وأعزف بحناني على أوتار قلبك..
أنا رجل أعشقك غاليتي بجنون.. فاستجيبي لرغباتي ولا تترددي..أنا أعشق القيادة حتى في قانون الحب"
هنا.. انتهى بها المطاف لمزيد من تساؤلات أنهت بها يومها؛ وكان آخرها تساؤلاتها المعتادة هل سألقاه غدا؛ متى و كيف و أين!!؟...