طبائع
بقلم: حسين أحمد سليم
نُعومةُ الملامسِ في وثيرِ المظاهرِ وإنِ اتّشحتْ بالحرائرِ, أبداً, لا تُوحي بليونةِ الأنيابِ المُعدّةِ للنّهشِ, أو نُعومةِ المخالبِ المُعدّةِ للتّمزيقِ, أو أنسنةُ الطّبائعِ المتوحّشةِ المُعدّةِ للإعتداءِ والعبثِ, أو الإطمئنانَ للنّفوسِ الماكرةِ الحاقدةِ المُتربّصةِ للغدرِ والطّعنِ والعدوانِ... فالأفاعي تمتازُ بلينِ ملمسها النّاعمِ, إذا ما حالفتِ الجرأةَ أحداً وحاولَ ملامسةِ جلدها الأملسِ, ولكنّ السُّمَّ يكمنُ في أنيابها المكتظِّةِ بالسُّمِّ القاتلِ, فإن علا فحيحُها فجأةً, وإلتفّتْ على محورها دونَ سابقِ إنذارٍ, ولدغت بحركةٍ خاطفةِ على حينِ غفلةٍ, ففي سُمّها يكمنُ العطبُ الدّائمُ أو الموتُ الزّؤامُ... والجّوارحُ من الطّير وإن تماهت بجمال شكلها, ولانت في ملامس ريشها, يسعى المُريدُ لاقتنائها وتدجينها والتّمتّعُ بشكلها, ومهما حاولَ المرءُ تدجينها والإعتناءَ بها, ففي مناجلِ مناقيرها وبراثنِ مخالبها يكمنُ العذابُ قبل الموتِ, إذا ما إنقضّتْ على فريستها, دونَ تمييزٍ بينَ الأحياءِ والأشياءِ... والوحوشُ المفترسةُ في الغابِ, مهما حاولَ المرءُ ترويضها وملاطفتها, وإقتناء ما يختار منها, وتقديمِ خدماته لها إن اقتضتِ الضّرورةُ, تعود على حينِ غفلةً لطبيعتها المتوحّشةِ, وأوّلَ ما تفترسُ صاحبها فتنقضُّ عليهِ وثبةَ غدرٍ وتقتلهُ وتقتاتُ بهِ عند الجوعِ...
الوحوشُ والكواسرُ والجوارحُ والأفاعي والعقاربُ وذواتُ الأنيابِ وأصحابُ المخالبِ وحاملوا المناقير المنجليّةِ... جميعها لا يؤتمنُ لها مهما بذلَ المرءُ من درايةٍ لها وعنايةٍ بها, فقد فُطرت على الطّباع التي تحملُ في كينونتها, فكم من ثُعبانٍ لدغ مروّضه وهو لاهٍ يُلاعبهُ, وكم من ببّغاءٍ جرحَ صاحبهُ بمنقاره وصاحبهُ يُلاطفهُ, وكم من عُقابٍ مزّق يد صاحبهِ بمخالبهِ وصاحبهُ غير منتبهٍ لهُ, وكم من ذئبٍ غدرَ وقتلَ وافترسَ دونَ شفقةٍ أو رحمةٍ, وكم من ثعلبٍ غافلَ واقتنصَ ونهبَ وسرقَ ولاذ بالفرارِ, وكم من خنزيرٍ أبى إلاّ أن يقتاتَ بالنّفاياتِ والقمامةِ, وكم من تيسٍ مغرورٍ بقرنيهِ نطحَ صاحبهِ فحطّمَ ضلوعهُ, وكم من بغلٍ رفس صاحبهِ فأعطبهُ, وكم من مياهٍ راكدةٍ ساكنةٍ أغرقت من حدّثتهُ نفسهُ اجتيازها أو السّباحةَ في مياهها, وكم من ضبابٍ ضاع بمن شاء ولوج متاهاتهِ, وكم من ليلٍ ابتلع من هامَ على وجهه بغيرِ هدىً, وكم من صحراء ابتلعت رمالها من حاول عبورها, وكم من غابٍ أخفت في أدغالها ما أخفت, وكم من رياحٍ عواتٍ حطّمت ما حطّمت وأزرت ما أزرت في عواصفها...
حدّثتني نفسي الأمّارةُ بكلِّ الأشياءِ, على غير عاداتها وذاتَ يومٍ غيرَ عاديٍّ, بإقامةِ علاقةَ صداقةٍ وودٍّ وصُحبةٍ مع الأفعى... ورُغمَ كُلَّ معرفتي المُسبقةَ وثقافتي بطبائعِ الأفاعي, وضرورةِ أخذِ الحذرِ من تقلّبها وفحيحها وغدرها ولدغها مهما لانت ملامسها... إلاّ أنّني لمْ أتهيّبَ الأمرَ ولمْ يُخالجني الخوفُ ولا دخلَ صدري الوجلُ, فحملني قدري أمامَ إصراري وعنادي وعرّفني إلى أفعى من أفاعي العصرِ, للّهِ درّها مِمّا تراءى لبصري دونَ بصيرتي الغارقةَ في هجودها... فما أجملَ شكلها المُتناسقِ ينسابُ طراوةً, وما أروعَ مظهرها الخارجي يسلبُ اللبابَ, وما أفتنَ طلعتها تُغري النّاظرَ إليها بالكثيرِ, وما ألينَ ملامسها تخالها قطعةً من الحريرِ, وما أنعمَ فحيحها كأنّ صوتها موسقةً في أذنِ اطّبيعةِ, وما أهدأ طباعها كأنّها امتازتْ بأحسنِ المناقبِ... أغرتني فتنتها التي استحوذت على عقلي, فأقمتُ معها صداقتي, التي تطوّرت إلى علاقةٍ وطيدةٍ مع توالي الأيّامِ والشّهورِ والسّنينَ... حتّى نالت من قدراتي الفكريّةَ والفنّيّةَ الشّيْ الكثيرِ, واكتنزت بما نالت من نقودٍ وأموالٍ ومساعداتٍ, فانقلبت على محورها وأنا في غفلةٍ من أمري, والتفّت بحنكتها المتذاكيةِ على بقاياي الرّميمِ, فأحاطتني بمكرها ودهائها وكيدها وتذاكيها, فسرقتني في لصوصيّة اعتادت عليها, وطعنتني في ظهري بدبّوسها المسنّنِ وأنا مطمئنٌّ لها, وغرزت خنجرها في صدري وأنا أحتضنها, وغدرت بي وأنا مُستسلمٌ لها, ولدغتني بأنيابها المسمومةِ, بعدما مزّقت أستاري بلسانها السّليطِ, وعرّتني أمامَ خلقِ اللهِ من أرداني, ورمت بي إلى مهبِّ الرّياحِ العواصفِ القواصفِ, وتنكّرت لي وأنا بأمسِّ الحاجةِ لها, وأوكلت ربيبتها بي وهي على شاكلتها, أفعى والعياذُ باللهِ, انتهزت كلّ ما استطاعت إنتهازهُ, تحت أقنعةٍ شتّى تُخفي كيدها ودهائها ومكرها وعربدتها... وقضت منّي ما قضت من أوطار, وحقّقت ما حقّقت من أهدافٍ, وسرقت ما سرقت في لصوصيّةٍ اعتادت عليها, ورمتني إلى أخرى من أفاعي العصر, تستنزف ما تبقّى من قدراتي, وتعصرني على عصّارتها العصريّةِ الحديثةِ...
هي الأفاعي, لا تختلفُ عن بعضها بعضاً مهما تعاقبتِ الحقبُ, وليسَ لأفعى من كيدٍ أعظمَ على أفعى أخرى إلاّ بما تعلّمت من أمّها وأختها, وورثت من جدّاتها عبرَ سالفِ العمرِ... ومن يأمنَ الأفعى حتّى في وكرها جاهلٌ, ومن يُصادقُ الأفعى لا شكَّ مخبولٌ في عقلهِ, ومن يثق في الأفعى لا شكَّ ناقصٌ في تفكّرهِ, ومن يُصاحبِ الأفعى فلينتظر يوماً غدرها, ومن يأنسَ بأفعى وينسجم بلين ملامسها فليدرأ مخاطر لدغها عند الفحيح والتّقلّبِ...