من "الوجوه والنظائر في القرآن الكريم" للدكتور سليمان بن صالح القرعاوي
ما زالت معاني القرآن الكريم بكرًا تتجدد في كل عصر لأنه القاعدة العريضة للشريعة الإِسلامية الصالحة لكل زمان ومكان. ولما كانت معاني هذا القرآن مكنونة في ألفاظه العربية المعجزة تنوعت مسالك العلماء في استخراج معانيه من هذه الألفاظ، وقامت دراسات حول ألفاظه العربية كي يتسنّى للفقيه، والمفتي، والحاكم، وطالب الفائدة معرفة أحكامه ومعانيه.
وقد نتج عن بعض هذه الدراسات ما يسمى بالوجوه والنظائر في القرآن الكريم التي كشفت النقاب عن المعاني المتعددة والمتجددة التي يصلح أن يدل عليها اللفظ الواحد، وكذلك المعنى الواحد الذي يصلح أن تدل عليه ألفاظ متعددة. وهذا يدل على اتساع قاعدة الشريعة الإسلامية كي تصلح لعلاج الحياة البشرية في كل مكان وزمان.
...
الوجوه والنظائر لغة: الوجوه: قال ابن دريد: "وجه الكلام: السبيل التي تقصدها به، وصرفت الشيء عن وجهه أي عن سننه. وكساء موجّه: له وجهان، ويجمع وجه على أوجه ووجوه وأجوه".
وفي لسان العرب لابن منظور: "... وفي الحديث ((أنه ذكر فتنا كوجوه البقر)) أي يشبه بعضها بعضًا؛ لأن وجوه البقر تتشابه كثيرًا. وفي حديث أبي الدرداء: ((لا تفقه حتى ترى للقرآن وجوهًا)) أي ترى له معاني يحتملها فتهاب الإقدام عليه. ورجل ذو وجهين إذا لقي بخلاف ما في قلبه".
وقال ابن فارس:"وجه/الواو والجيم والهاء: أصل واحد يدل على مقابلة لشيء، والوجه مستقبل لكل شيء. يقال: وجه الرجل وغيره. وربما عبر عن الذات بالوجه. وتقول: وجهي إليك، وتقول: واجهت فلانًا أواجهه إذا جعلت وجهك تلقاء وجهه". والنظائر: جمع نظير، وهو المماثل والشبيه، يقال: فلان نظير فلان إذا كان مثله وشبيهه والجمع نظراء، ومن ذلك قول ابن مسعود: ((لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بها عشرين سورة من المفصل))، ((يريد السور المتماثلة في المعاني كالموعظة أو الحكم أو القصص، لا المتماثلة في عدد الآي، لما سيظهر عند تعيينها)). قال المحب الطبري: "كنت أظن أن المراد أنها متساوية في العد، حتى اعتبرتها فلم أجد فيها شيئًا متساويًا".
وفي تاج العروس للزبيدي: "النظائر: الأفاضل والأماثل لاشتباه بعضهم ببعض في الأخلاق والأفعال والأقوال. ونظائر القرآن: سور المفصل سميت لاشتباه بعضها بعضًا في الطول".
وقد استعمل المفسرون النظائر للدلالة على الألفاظ المختلفة لفظًا والمتفقة معنى، فقالوا: الابتلاء، والاختبار، والامتحان: نظائر، كما استعمل الأصمعي في العدد، فقال: عددت إبل فلان نظائر أي مثنى مثنى.
الوجوه والنظائر اصطلاحًا:
حينما تعرضنا للمدلول اللغوي وجدنا أن علماء من تكلم في الوجوه والنظائر قد جعلوا لهذه الألفاظ معاني اصطلاحية فيما بينهم، وجعلوها أسماء لكتبهم. وكان أول من عرّف الوجوه والنظائر ابن الجوزي في كتابه ((نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر في القرآن الكريم)) حيث قال:"واعلم أن معنى الوجوه والنظائر أن تكون الكلمة الواحدة قد ذكرت في مواضع من القرآن الكريم على لفظ واحد وحركة واحدة، وأريد بكل مكان معنى للكلمة غير معناها في المكان الآخر، وتفسير كل كلمة بمعنى يناسبها غير معنى الكلمة الأخرى، هذا ما يسمى ((الوجوه))، أما النظائر ((فهو اسم للألفاظ، وعلى هذا تكون الوجوه اسمًا للمعاني، ومن هنا كان الأصل في وضع كتب الوجوه والنظائر))".
وهذا التعريف لم يسلم من نقد ((الزركشي)) و((السيوطي))، وهما من أبرز من كتب في الدراسات القرآنية، أما الزركشي فبعد أن عرّف الوجوه والنظائر بقوله: "فالوجوه: اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان كلفظ ((الأمة))، والنظائر كالألفاظ المتواطئة".
قال: "وقيل: النظائر في اللفظ والوجوه في المعاني، وُضّعِفَ؛ لأنه لو أريد هذا لكان الجمع في الألفاظ المشتركة، وهم يذكرون في تلك الكتب اللفظ الذي معناه واحد في مواضع كثيرة، فيجعلون الوجوه نوعًا لأقسام والنظائر نوعًا آخر كالأمثال".
وكذلك السيوطي اقتفى أثر صاحب ((البرهان)) في نقده لتعريف ((ابن الجوزي)) وانتهى إلى تعريفه بقوله: "فالوجوه: اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان كلفظ ((الأمة))...".
أما صاحب ((كشف الظنون)) فلم يتقبل نقد ((الزركشي)) و((السيوطي)) بل أيّد ابن الجوزي فيما ذهب إليه، فقال: ".. ومعناه أن تكون الكلمة واحدة ذكرت في مواضع من القرآن على لفظ واحد وحركة واحدة، وأريد بها في كل مكان معنى غير الآخر، فلفظ كل كلمة ذكرت في موضع نظير للفظ الكلمة المذكورة في الموضع الآخر هو النظائر، وتفسير كل كلمة بمعنى غير معنى الأخرى هو الوجوه، فإذًا النظائر اسم للألفاظ، والوجوه اسم للمعاني".
وأقول: إن العلماء في هذا المجال يذكرون الكلمة الواحدة، ثم يذكرون معانيها المتعددة، ويستدلون على كل معنى بالآيات القرآنية، مما يدل على أن الوجوه للمعاني، إذ يشيرون إلى الكلمة، ويقولون.. وفيها سبعة عشر وجهًا.. وفيها أربعة وجوه.. وهكذا نجد أنهم يريدون بهذا الوجه معنى يختلف قربًا وبعدًا عن معنى آخر مرادًا من آية أخرى.. والله أعلم.