..فتح عينيه الواهنتين ..تلمس بيديه السرير الذي يتمدد عليه فألفاه باردا ضيقا لا يتجاوز عرضه أربعين سنتمترا. رغم الضجيج الذي يملأ المكان ظن أنه ممدد في قبره، أجال النظر حوله، لفت انتباهه أشخاص يلبسون وزرات بيضاء... بعد لحظات من الشرود تذكر أنه كان يقف في طابور طويل داخل قسم المستعجلات قبل أن يسقط مغشيا عليه..
تحسس مناطق الألم في بطنه، وتذكر تلك السكاكين التي كانت تمزق أحشاءه قبل أن يأتي إلى المستشفى...
لم ينتظر طويلا حتى تقدم منه شاب أنيق، رغم لباسه الأبيض إلا أن الحاج شك أن يكون طبيبا، لحداثة سنه..بعد لحظات وجد نفسه يمشي في الممر الطويل في اتجاه العمارة ديال الجاج (العمارة الزجاجية) بناء على توجيه الطبيب الذي طمأنه بأنه سيجد طبيبا مختصا يفحصه جيدا ويعطيه العلاج المناسب..
لم يجد الطبيب في انتظاره، ولكن وجد طابورا بلا نهاية، وأصواتا تتعالى في كل اتجاه، وأنينا ينبعث من أحد الأركان، وشبابيك توزع مواعيد غريبة..
تناهت إلى سمعه شكوى شخص كان موعده بعد سنة، فأعاد النظر إلى الورقة الصفراء التي كتب عليها الطبيب اللطيف في قسم المستعجلات توصيته، وقال في نفسه "لست مثلهم، أنا عجوز مريض وحالتي مستعجلة، وقد أوصوا بي خيرا في هذه الورقة..قد أرى الطبيب المختص اليوم.." يبدو أنه فعلا أكثر حظا، فقد طلبت الفتاة التي تجلس وراء الشباك الزجاجي من بقية الواقفين أن يسمحوا له بالتقدم قبلهم لأنه "راجل كبير" كما قالت..
وضع الورقة الصفراء أمامها، قلبت بعض الأوراق ثم ضربت له موعدا بسرعة، وتوجهت إليه بالكلام "ملي يوصل الموعد آجي لهاد العمارة وجيب معاك ستين درهم.." لم تترك له فرصة ليسأل عن الموعد، تحاشته وتوجهت الى من يليه ..
لم يكد يخرج من الصفوف المزدحمة، حتى توجه إلى أحدهم "أرجوك ابحث لي عن الموعد.." كان الجواب كالصفعة الباردة "نهار ستة فشهر ثلاثة 2010 مع الثمنية ونص ديال الصباح" صاح بعد أن سمع موعده "المستعجل" أكثر من مرة "من بعد ست شهور؟" ..كان يعرف أن الزيارة المقبلة لألمه ستكون قاتلة، بدأ ينتابه شعور أنهم يعرفون جيدا أنه سيموت قبل هذا الموعد، جر رجليه المتعبتين وغادر المكان لكي لا يرى أحد دموعه المنسكبة، شعر بتعرق شديد، وبرعدة تسري في أوصاله، لسعات الألم تعبث بصور أحبته في مخيلته، ندم لأنه خرج من بيته هذا الصباح دون أن يقبل حفيديه، ودون أن يرى أبناءه ويخبرهم أنه راض عنهم، وندم أكثر لأنه صدق أطباء الإذاعة الذين كان جوابهم واحد لكل من يسألهم "لابد من استشارة الطبيب" ..
قصة انسانية رائعة
تحدث كثيرا في زمن تحجرت فيه القلوب
وأصبح لكل شئ ثمن
عزيزتي مريم
هنالك من لا يملك ثمن العلاج
المستشفيات العامة هذا هو حالها كما
جاء في نصك
والإستثمارية لا يجرؤ فقير على الوقوف على عتباتها
كان الله في عون الضعيف والمحتاج
تقديري