الذاكرة مرفأ الخيالات، يعصف بحرُها ويستكين. يقلّبُ الماضي على راحتيها الأوجاعَ/الأماني/البكاء/الشعور التائه في عالم أثيري عميق. فصعبٌ هو مصارحةُ الذات، والأشدّ صعوبة الاسترسال في عدم نكران الواقع. وخصوصاً إن من تخصّهُ الحكاية رجلاً ستينـياً يـودّع زمنا ً غابرا ً، ويمارس الحياة في بساطة مألوفة لعمره الشائخ. الشتاءُ عانق المدينة، طابعاً على خدها الأسمر قبلاً باردة. كنت طفلاً أراه كالباقين قرب المدفأة،يتصفـّحُ كتاباً أو صحيفةً أو يعتكِفُ كناسك يرسل أنظاراً بعيدة من خلال النافذة المطلة على البساتين النائمة. كنتُ أراقبه عن كثب حين يبكي من دون سبب، خافياً بكاءَهُ عن الكبار، ومسترسلاً في دموعه أمامي غير آبه، بحكم أني صغير وغير مكترث لدموع رجل عجوز، وهو الآخر ينظر إليّ النظرة ذاتها دون اهتمام.
مازلتُ أتذكّرُ صوته البعيد، وارتعاشَ يدهِ الشائخة. سألني ليلتها عن حال المدرسة وهموم المذاكرة، وكفي تخطُّ على الورقة خطوطاً لا أعرفُ مغزاها، سوى أن الحركةَ كانتْ تحولُ بين عيني ّ وعينيه اللامعتين "بخير" أجبته ببساطة.
صمتَ برهة فانتبه إلى نظارته وقد تلطختْ بدمعهِ المترقرق فأنزلها ماسحا ً زجاجها القديم وأرجعها ثانية ً فعاجلته حينها بشغف طفولي :-
- جدي ..جدي..لماذا تبكي .؟!
بانتْ ابتسامةٌ على وجههِ المتعب ،ثم ربّتَ على كتفي، اعتدلتُ في جلستي وبدأت أطالعُ قسماتِ وجههِ وهو يزفرُ تأوهاً حين ذكر "الماضي" وقصةً أشرقَت في كلامِهِ كشمس خجــولة .
توسّـلتُ إليه راجيا ً أن يقـصّها لي، فما هي إلا ثوانٍ وانفرجتْ الستارةُ في مسـرحِ الـذّاكرة معلنةً هي الأخرى تأوهات خفية في اللاشعور حيثُ استطردَ قائلا ً:
- حين كنتُ شابا ًوكان لزاما علي ًأن أكملَ خدمتي العسكرية ،تعلـّقتُ بصديقٍ حنون لي في تلك المحنة.
قاطعته ُ مستفسرا ًعن اسم صديقه فأجاب:
-لا يهمنا اسمه، فالأسماء لوحات رخام نخفي تحتها قبورَ الأرواح ) لم أفهمه في تلك اللحظة وتركته يكمل حديثه مبحراً :
كان صباحنا يعلنُ بدايةَ يوم شتوي جديد، وكانتْ الطيور تحلـّقُ فوق كتيبتنا ، تطالعُ تدريباتنا الصباحية الرتيبة، نقفز ونتمرن ونهرول غير آبهين بالبرد، كنّا متحابين تجمعنا شفافية الوئام والحب والصفاء. كنتُ وإياهُ بمنأى عن الباقين، فقط ْأنا وهو؛ نأكلُ وننام ونحكي وقتَ الغروبِ حكايات عن مدننا وقرانا البعيدة، فتارةً يحكي لي عن حبٍ أرّقهُ، وتارةً أحكي له مشاعري وحكايات حب انتهتْ يوماً ولم تفلحْ. كانتْ حياتنا سعيدةً بالرغمِ من تعاسةِ المكان، وتكالبِ الهمومِ الوطنية التي جمعتنا في معتقلِ الرتابة والواجب.
اعتدلتُ في جلستي بعد أن رَعدتْ السماء، نظرت إلى وجه جدي الخافت مستفسراً في استغراب:
- ولكن يا جدي ما الذي يبكيك في هذه الحكاية .؟
وضع الرجل العجوز نظارته على الطاولة المجاورة، ثم فرك عينيه بهدوء مستذكراً :
- مرتْ علينا ذاتَ شهرٍ أيامُ جوعٍ وقحطٍ، بسببِ بعد موقعنا البائس، فتكالبُ الطـقسِ علينا قطع الإمدادات من معونةٍ وإعاشةٍ دورية، وتكفـّلَ الشتاءُ بالباقي، حين أذابَ ما أخفيناه من طعام وشحوم وعزيمة، وبعد أيام ظهرتْ بوادرُ الخير حين لاحتْ لأعيننا مركبةُ الإعاشة من بعيد، عادتْ كـ (سانتا كلوز) محملةً بالهدايا للجائعين. في يومها لم تسعنا الفرحة، لقد كنـّا على مشارف الموت نتيجة الجوع، قلت لصديقي "سوف نأكل حتى نموت من الشبع" ضحكَ صديقي وحمدَ اللهَ بوجودي معه في محنتنا تلك. وصلت المركبةُ المتهرئةُ إلى باب الكتيبة اليتيمة،ثم اغلق السائـقُ باب َ المركبة بقوة ،و سـلّمَ على الموجودين، قاصداً مقرّ الإعاشة، ومبلغا ً أن ما بحوزتهِ أرغـفة خـبز لا أكثر، صُعـِقَ الجميعُ بهذا الخبر القاتل، وتنازلَ بعضُهم عن نواميسه الكبرى كافراً بكلّ مقدّسٍ في الوجود، واستغفرَ بعضُهم ربَه صابراً على ما أصابه من ضـيم ٍ، وأنا وصديقي نتفرج على مهزلةِ الجوع الأليمة، لا نعرفُ أنبكي.؟ أم نضحكُ...؟
وُزِّعَتْ أرغفةُ الخبز حيثُ أخذ الآمرون حصتهم المألوفة، ومن ثم تمَّ توزيع الباقي على من لهُ يدٌ وذارع مفتولة ولسانٌ فاتك. همسَ صديقي في أُذني (سوفَ أجلبُ لنا رغيفين نخرس بهما جوعنا ) هرولَ إليهم مسرعا ً علَّه يخطفُ قرص رغيف بائس، أنا لم أفعلْ شيئاً سوى رجوعي إلى قاعة المنام منتظراً الموتَ أو وصولَ قافلة إمدادات أخرى. عادَ صديقي مبتسماً وبحوزته قرصُ رغيف واحد، جلسَ قربي وهو يحكي قصةَ مغامرتِهِ للحصولِ على الجائزة، ومصارعةِ الباقين وخطف لُقيمات تخرس صوت الألم في غابة الجوع المظلمة. وضعَ الرغيفَ أمامي طالباً مني الأكل، ولكني رفضتُ معلناً صبري على الحال، متعاطفاً معه ، فقرصُ رغيفٍ واحد لا يكفي لرجلين، توسّلَ بي أن أشاطره فرفضتُ مجدداً، وأخبرته أني سوف أحصلُ أيضا على قرصِ رغيف آخر، ثم خرجتُ ولعلَّ في خروجي أملاً وجدوى. تركته وحيداً فـَرِحـاً بالنصر، فلمْ نحاربْ في تلكَ الكتيبة عدواً إلا الجوع، وقد هـُزِمْنا شرَّ هزيمة.
عدتُّ إليه صفر اليدين، سألني باستغراب(هل حصلت على شيء.؟ فأجبته نعم)، ولم أخبره أني مهزوم رجعت، سألني عن رغيفي فأجبته( أكلته في الطريق).
خيّمَ الليلُ وشيكا ً خافياً تحتَ لحافـِهِ أنـّات ٍ متفرقة لبعض الجائعين، مثلي طبعاً لم يفلحوا بالوصول إلى بغيتهم، صديقي أخفى رغيفه في حقيبته البسيطة، ثم توجَّه للصلاة شاكراً ربَه على ديمومة ِالحياة، كنتُ أراقبه عن كثب، فقد أوصاني ألاَّ أفارقَ الحقيبة، وخصوصاً أن فيها بعضَ ما يملكُ من أشياء، وأهمها رغيفُ الخبز الثمين.
أكملَ صلاته وشكرني على صبري، ثم توجهت أنا بدوري إلى خارجِ المكان لقضاء بعض الأشياء، وإذا بصوت صديقي يعلو من داخل القاعة، رجعت راكضاً إليه .. ماذا حصل ... ماذا حصل.؟)سألته في عجلٍ فأخبرني أن رغيفه سُرِقَ، سألتـُهُ هل رأيتَ الشخص الذي أخذه .؟قال ..لا لم أرَه ). بدأ صديقي يسأل الباقين، يستحلفُ هذا ويقسم على هذا، من أخذ قرصي الوحيد) يصيح بصوتٍ عالٍ، بدأ يفقدُ أعصابَه/يشتم/يبصق /يلعن سارقَ الرغيف، والكلُ في صمتٍ نائمون /مستسلمون للجوع والقدر. سألته هل وضعته في مكان آخر .؟ أجابني بـ( لا ..لا) .
رجعَ صديقي إلى فراشِه مستسلماً هو الآخر للجوع، وغطَّ في نومِه كعصفورٍ مكسور الجناح.في تلك الليلة الكلُ نام في هدوء، إلا أنا بقيتُ ساهرا ً حتى الصباح أستشعر أسرابا ً من الملائكة تهبطُ على قاعة المنام، حاملةً روحَ صديقي العزيز إلى عالمٍ انقرضَ فيه الجوع والحسد والأنانية، لم أعرفْ ليلتها هل رحل بسبب الجوع .؟ الألم.؟ أم الضياع والحُرقة ؟ نعم سهرتُ ليلتها وأصبحتُ بلا صديق ... بلا رفيق، لقد رحل إلى عالم الخلاص.وتركني وحيداً أمضغ آلامي وأرى أيامي تتآكل حزناً وندماً. رحل ذاك الصديق ،ولم يشبعني رغيف العالم كله، ومصيري أن أظل جائعاً إلى صديق حنون.
توقف جدي عن الكلام سارحا ً في عالم ٍ بعيد، فانبريت له سائلا ًبفضولٍ شديد:
- ولكن .. يا جدي هل عرفت من سرقَ قطعةَ الرغيف..؟
نكّسَ رأسه بحزنٍ عميق، ونَبس في استحياءٍ كالأطفال مشيرا إلى صدره :
- أنا
التوقيع
أتزهر في روحي حدائقُ جنةٍ
ثلاثونها المسكينُ كالطفل يقبعُ
آخر تعديل انمار رحمة الله يوم 08-11-2011 في 02:51 AM.
الجوع كافر
قصة تستحق أن اقف على قدميّ مصفقة لقلمك بخشوع
لكني سأخجل منهم
من أولئك الجائعين الصّابرين
من أولئك المنتظرين الموت كي يرحمهم من جوع في زمان التّخمة
قصة مؤثرة جدا استاذ أنمار
التوقيع
ممن اعود ؟ وممن أشتري زمني ؟ = بحفنة من تراب الشعر ياورق؟
الجوع كافر
قصة تستحق أن اقف على قدميّ مصفقة لقلمك بخشوع
لكني سأخجل منهم
من أولئك الجائعين الصّابرين
من أولئك المنتظرين الموت كي يرحمهم من جوع في زمان التّخمة
قصة مؤثرة جدا استاذ أنمار
ولي ان اقف اجلالا لمرورك البديع
وذوقك الرفيع
ومشاعرك الصادقة جدااا
تحياتي الابدية
التوقيع
أتزهر في روحي حدائقُ جنةٍ
ثلاثونها المسكينُ كالطفل يقبعُ
الاخ المبدع الرائع هشام البرجاوي
بالفعل ان فداحة الالم
واحتدام المشاعر في غيهب عتيم
تركت لنا علامة استفهام في كل جملة
وحيرة في كل معنى
لك الود والتحية والاجلال
التوقيع
أتزهر في روحي حدائقُ جنةٍ
ثلاثونها المسكينُ كالطفل يقبعُ
قصة مؤثرة بحق .. صدق حروفك، و شفافيتها أوصلت لنا مشاعر الرجل الباكي، النادم على فعلته، الذي شعر بأنه هو السبب ربما بموت صديقه .. لا أخفيك .. صدمني أن يكون هو السارق، و قد كان يتعزز بالبداية، و رفض أن يشارك بنصف الرغيف .. توقعت أن يكون الرغيف أحد أحلام اليقظة لدى الجائعين، و لكن !..
ما أقسى الحياة بلا صديق صدوق .. هذه هي الخسارة الكبرى في الحياة .. كم نحتاج لإيجاده .. و كم، و كم علينا أن ندفع لنحتفظ به .
الراقي أنمار ..
لك حرف متألق يرسم الكلمات بأناقة .. فتصل الى القلوب بدون استئذان
دام لك الإبداع و التألق