كان قلبه كما هو معروف ينبض شعرا بينما يده كحمامة أندلسية زرقاء اللون حمامة نشطة في كامل عنفوانها حمامة حلقت طويلا ثم مالت في طيرانها وحطت بهدوء علي ورقة الرسم (أي ورقة أو سطح قابل للرسم) إلى أن تمكنت هذه اليد الماهرة من هذا الفن وصار بمقدور (لوركا) أن يرسم بيسر موضوعات عدة ، رسم الطبيعة الساكنة والقيثارات الناعسة ، رسم مساحات الظل المنبسطة إلى أبعد الحدود والمناظر الريفية بخطوط رشيقة تاركا السيطرة لسلم اللونين الأحمر والأصفر كما رسم بالأقلام الخشبية الملونة وكان يرسل البعض من هذه الرسوم إلى أصدقائه في غرناطة عندما حل في مدريد .. رسومات لا تبتعد كثيرا عن استكشات قصائده فقد أعتاد منذ كان شابا صغيرا علي تزيين رسائله برسوم يرسمها بألوان مائية خفيفة في رغبة منه للحرص علي أن الرسم لديه لا ينفصل عن الشعر :
يتفتح حقل الزيتون
ويغلق حقل الزيتون كمروحة
فوق الحرج .. سماء غامقة
مطر أسود من نجمات باردة
في ضفة النهر ترتجف العتمة والقصب
ويموج هواء داكن
أشجار الزيتون تضج بها الصرخات
سرب طيور مأسورة تشرع أذيالا متطاولة في الظل .
ففي بداياته الأولى مع الرسم استخدم لوركا نظاما أصيلا للألوان الأساسية لرسم الجبال المجاورة: أخضر بحري شاحب ، بني خفيف ، أحمر ، بني غامق . رسومات تخرج منها تدريجات الإيقاعات الجديدة المحجبة مغمورة بالألوان الأرجوانية . كما أستعمل سلما ثانيا للألوان لاستدعاء المدينة بواجهاتها المتعددة ، أرجواني تفاحي ، أخضر ، وردي مبيض ، والنرجسي الاسلي .
وثمة سلم لوني آخر أكثر رقة ونعومة ، فعندما يأتي المساء فانه يكسو القرى والجبل رداء حريريا مشربا بالفضة مع بريق اللؤلؤ . ألوان الصقيع ، القرنفل ، اللؤلؤ القديم ، الزفير والعقيق وكلما تقدم النهار بدت ألوان(لوركا) جديدة من صباحه إلى مسائه عن تتابع كل إمكانيات الضوء . وكما كان - لوركا - يتمتع بقدرة فائقة علي الرسم والحديث ، كان أيضا لا يحتكر الكلام كله لنفسه بل يترك للآخرين متسعا لأحاديثهم ويظل منتبها إليهم صامتا ومشدودا إلى قسمات وجوههم يرصد انفعالاتهم وتعبيراتهم الطارئة يقتنص ما يجول في داخلهم بينما قلم الرصاص بين أنامله ينتقل علي سطح الرسم بخفة ونعومة عبر الانحناءات وتعرجات الوجه البشري ضمن إجادة تامة مما جعل رسوماته الآن تنافس أشعاره ومسرحياته في الأهمية والعناية من قبل دارسي هذا الشاعر العملاق .
البنت الحلوة تجمع زيتونا
والريح أمير الأبراج
يأخذ هذى الحلوة بالخصر
فرسان أربعة
مروا فوق جياد أندلسية
الأزرق والأخضر والأقباء السود
"يا فتاة تعالي إلى قرطبة"
مصارعو ثيران فتيان مروا .. بخصور مرهفة
وثياب نارنج وسيوف فضة
"يا فتاة تعالي لاشبيلية"
لكن الفتاة الحلوة لم تأبه
حين صار الأصيل أرجوانا مضاء
جاء هذا الفتي حاملا زهرات القمر
"يا فتاة تعالي لغرناطتي"
لكن الفتاة الحلوة لم تأبه
البنت الحلوة ظلت تجمع زيتونا
وذراع الريح الربداء تطوقها.. تأخذها بالخصر.
ومثل فان جوخ فإن لوركا كان يحب أن يري الألوان ويقدمها إلى أبصارنا وهي مجلوة قد صقلت حتى بلغت أقصي درجات بريقها وتألقها . فالريح ليست فقط ذات لون معين ولكنها من العنف بحيث تتخذ هيأة (عجوز زمردي) واللون يطارد الحسناء، والفواكه صفراء مخملية ، وللمنازل البيضاء نصاعة الجير ولا يمكن لأي ظل أن يستقر علي الجدران النيلية بشوارع جارته الخفية .
وعلي نحو مفاجئ يلوح لوركا بإشارة الوداع ويقول هامسا:
حين أموت
فلتدعوا الشرفة مفتوحة
يأكل الطفل برتقالا
(أنى لا أراه من الشرفة)
الحاصد يحصد قمحه
(أسمعه من هذى الشرفة)
حين أموت
فلتدعوا الشرفة مفتوحة .
منقول بتصرف
التوقيع
ممن اعود ؟ وممن أشتري زمني ؟ = بحفنة من تراب الشعر ياورق؟