دقة الإيصال في أسلوب الحديث النبوي الشريف / محفوظ فرج إبراهيم ـــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره . وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع )صحيح أخرجه البخاري2917،5299،5797 ومسلم 1021 رياض الصالحين ص 249برقم 560
الحديث الشريف الذي نحن بصدده كان فصلا بين البخيل، والمنفق، وشتان ما بينهما. والصورة الفنية المتجسدة لصورتين في مستوى بنائي دقيق التركيب لا يخرج عن أسلوبه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الأخرى التي وسم طريقته المثلى في الإيصال على مستوى الصورة، والتوكيد، والحذف، والطباق والتقديم ،والتأخير ليتضح من خلال الاستقراء أن هنالك بونا شاسعا بين أسلوبه صلى الله عليه، وسلم ،وأساليب القرآن المعجزة المترامية في تنوعها ،وطريقة إيصالها التي تعجز الإتيان بمثلها لو اجتمعت ملايين العقول البشرية.
والحديث في بداية تركيبه جاء جملة اسمية ( مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من ثديهما إلى تراقيهما ) فالمبتدأ ( مثل البخيل، والمنفق ) المشبه الطباق الذي سيفضي الخبر فيها المشبه به إلى صورة مناسبة تجمعهما وهي رجلان يلبسان درعين من الثدي حتى الترقوة.
وإذا كان الحديث هو الترهيب من البخل، والترغيب بالإنفاق فانه صلى الله عليه، وسلم قدم البخيل على المنفق ذلك أن أهمية الحديث تعتمد على إيصال ما يحيق بالمسلم البخيل، وما ينتظره من عذاب.
فضلا عن ذلك حين نتأمل في الطباق بين البخيل، والمنفق نجد دقته صلى الله عليه وسلم فقد وصف البخيل (فعيل ) والمنفق (مفعل ) من خلال اشتقاقهما، وبنيتهما الدلالية ف(بخيل) صفة مشبهة( 1) ثابتة، واستمرار البخل في هذه الشخصية لا يتغير، و(المنفق ) جاء اسم فاعل يدل على التجدد، وحال الإنفاق متكرر لديه، ومن خلال المشبه به (كمثل رجلين ) الخبر المؤكد بالكاف الحرف الزائد ليبين ان وجه الشبه مطابق للمشبه (كمثل رجلين عليهما جنتان من ثدييهما إلى تراقيهما ).
تذهب بنا الصورة إلى مقاتلين في ساحة حرب، ولكن لكل رجل سماته، وعلاماته لتبدأ ألوان من البناء، والتركيب والصوت، والموسيقى تضع الحدود لعلامات المقاتل في المشبه به للبخيل، والمنفق وهنا تقدم المنفق في علاماته على البخيل لكي تتملى البصيرة عن طريق ملموس فضل المنفق ( فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره ) وقد كان لأسلوب التوكيد أثر كبير في اختزال حدود الصورة لذلك فان المقاتل المنفق الذي بسط يده للآخرين من الضعفاء، والمعوزين.
وهو مجاز ابتدأ ب (أما) الشرطية التفصيلية، وهي توكيد بنفس الوقت ( مهما يكن من شيء فلا ينفق المنفق إلا سبغت، أو وفرت ).
إذ تطاولت الجنة الدرع حتى كسته وهي على المستوى النفسي واسعة عليه فيبدو منشرح الصدر ( حتى تخفي بنانه، أو تعفو أثره ).
وهذه كناية( 2) عن تعذر وصول العدو إليه أنه لا يراه، وحتى إذا رآه فدرعه يحميه من السهام، وكل ذلك لأنه باسط يده في الإنفاق.
ولعل النفي، والاستثناء التوكيد بالقصر قد بين في الفعل المضارع المنفي المقصور، والفعل الماضي المقصور عليه بعد إلا يقابل ذلك صورة المقاتل المشبه به البخيل للبخيل المشبه ( وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزمت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع ).
والملاحظ على صورة البخيل الذي جاء على النقيض من صورة المنفق؛ فان بناءها بعد أما التفصيلية مشابه من حيث تركيبه؛ أما تلاها جواب شرط نفي ،واستثناء لكن صورة البخيل من الناحية النفسية جسدت الضيق كضيق إرادته التي تدعوه إلى عدم الإنفاق ولو عقدنا مقارنة بين صورة البخيل من الناحية النفسية والصورة الفنية في وصف الدرع كيف ضاق على ذلك المقاتل لوجدنا أن ذلك تحديد حسي لوضع نفسي حين ضاق الدرع عليه ولزقت على صدره فآلمته من حنق الدرع له فلا يستطيع أن يجد سبيلا لاتساعه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محفوظ فرج / سامراء 1432هـ / درس تطبيقي في تحليل البنية والصورة في الحديث النبوي الشريف
( 1) الصفة المشبهة باسم الفاعل تصاغ من مصدر الفعل الثلاثي اللازم للدلالة على ثبوت الصفة في من قام به الفعل / عمدة الصرف تأليف كمال ابراهيم مطبعة الزهراء بغداد /1957م ص89 ( 2) الكناية هي لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه كقولك( فلان طويل النجاد )و (فلانة نؤوم الضحى ) الإيضاح في علوم البلاغة تأليف قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن المعروف بالخطيب القزويني ج2 مطبعة السنة المحمدية بدون ت ص318