لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات فآمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة قولا وفعلا من الإتيان بالطاعات وترك المنكرات وبهذا ورثوا الجنات المشتملة على الغرف العاليات والسرر المصفوفات والقطوف الدانيات والفرش المرتفعات والحسان الخيرات والفواكه المتنوعات والمآكل المشتهيات والمشارب المستلذات والنظر إلى خالق الأرض والسماوات وهم في ذلك خالدون لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون ولا ينامون ولا يتغوطون ولا يبصقون ولا يتمخطون إن هو إلا رشح مسك يعرقون .
يقول تعالى " وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا" وهم أتباع الرسل " فَفِي الْجَنَّةِ " أي فمأواهم الجنة" خَالِدِينَ فِيهَا " أي ماكثين فيها أبدا " مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ " معنى الاستثناء ههنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمرا واجبا بذاته بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى فله المنة عليهم دائما ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس .
وقال الضحاك والحسن البصري : هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في النار ثم أخرجوا منها وعقب ذلك بقوله " عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ " أي مقطوع قاله مجاهد وابن عباس وأبو العالية وغير واحد لئلا يتوهم بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاع أو لبس أو شيء بل حتم له بالدوام وعدم الانقطاع كما بين هناك أن عذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته وأنه بعدله وحكمته عذبهم ولهذا قال "إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ هود(107) " كما قال " لَايُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ الأنبياء(23) " وهنا طيب القلوب وثبت المقصود" بقوله عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ "
وقد جاء في الصحيحين" يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت " وفي الصحيح أيضا " فيقال يا أهل الجنة إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا " .