أخذت الفتاة الصغيرة موقعها الأخير للنوم بين عدد لا بأس فيه من الأخوة والأخوات، وكونها الأكبر سناً بين البنات أعطاها هذا امتيازاً من نوع ما، لتكون على طرف المنامةِ التي تم رصها على الأرض بجانب بعضها البعض، لا يفصل بينها وبين النائم أو النائمة بجوارها غير فراغٍ هي من اختطه عبر دحرجة نفسها، ليكون جزءاً من جسدها على الفراش، والجزء الأخر يعانق الأرض الباردة جداً تحتها، كانت تقنع نفسها بأن الأرض سرعان ما تبدأ في الدفء بمجرد أن تعتاد وجود هذا الجسد الطفولي فوقها.
بدأت تغمض عيناها في محاولة لجلب النوم وقد قُطعت الكهرباء في موعدها المعتاد ليلاً، حيث كانت الكهرباء تبدأ في ساعات الظهيرة وتنهي عملها في ساعات المساء، " وويل لمن يعيش بقلب مرعوب من ساعات المساء المظلمة ".
كان البيت الذي تقطنه الطفلة وأسرتها يتكون من غرفتين ومطبخ مهترئ، تتساقط قطع الطوب وبعض أنواع التراب من سقفه وجدرانه، وحمام واحد لا يقل وضعه سوءاً عن وضع المطبخ المتهالك، العزاء الوحيد لها أنها كانت تشاهد الكثير من البيوت على هذه الشاكلة، ولم يكن الموضوع ليشغل تفكيرها لا من قريب ولا من بعيد، فقد اعتادت الوضع، كانت الغرف مقسمة بطريقة غير عادلة من وجهة نظرها الطفولية، فالجدة تأخذ غرفة كاملة وحدها؛ لا تسمح لأحد بالنوم معها في الغرفة ولا دخولها نهاراً، إلا في حال قدوم ضيوف من خارج البلدة، فقد كانت توافق على مضض أن يتم استقبال الضيوف ونوم بعضهم عندما تدعو الضرورة لذلك معها في الغرفة، أما الغرفة الثانية أو محطة الرعب الأولى في حياة صاحبتنا، فقد كانت تحتوي على مقاعد من نوع جيد، ومكتبة صغيرة فيها أنواع متنوعة من الكتب بأكثر من لغة، وسرير من الحديد تم وضعه وتزيينه بغطاء جذاب وجميل، حتى لا يبدو منظره شاذاً في غرفة يتم استقبال الضيوف فيها نهاراً، وتمارس العائلة مجتمعة باستثناء "الجدة المتفردة بغرفة مستقلة " النوم ليلا، ويمارس الرعب صب جام غضبه على قلب تلك الطفلة ذات الستة أعوام أيضاً في ليل الغرفة.
كانت صاحبتنا متميزة عن بقية أخواتها، أو هكذا كانت تشعر بينها وبين نفسها من طريقة معاملة الوالد الصارمة للجميع باستثنائها، "حيث لم تكن عادته أن يبتسم لأحد من الأبناء أو حتى للزوجة"، ولكنه كان يبتسم عندما تقع عينه عليها، يمازحها بجملة اعتاد أن يقولها لها جواباً على طلب كانت دائما ما تطلبه منه، كانت كلما شاهدته ينوي السفر باتجاه العاصمة تطلب منه أن يحضر لها "تنورة" لترتديها، فقد شاهدت إحدى المعلمات ممن يترددن على البيت بشكل دائم ترتدي تلك المسماة تنورة، وكانت تعجبها تلك المسافة المكشوفة من السيقان، كان يقول لها بلهجته المختلفة عن لهجة أهل القرية بشكل كبير، هل ما زلت تريدين التنورة؟؟!! ويمد الكلمة الأخيرة بشكل واضح، فتنظر له بكل توسل ورجاء..
- نعم أريدها.. وتهز رأسها من غير أن تتكلم أو تقول نعم، يضحك مقهقهاً، ويذهب لعمله أو لخروجه المعتاد من البيت.
في الليل تتغير صورة الوالد كثيراً عنه في النهار، عندما يمازحها بتلك الجملة اليتيمة والتي تميزت بها عن بقية أفراد الأسرة، باستثناء الجدة طبعا، والتي كان الوالد لا يتحدث معها كثيراً، ولكنها كانت دائمة التذمر والشكوى من لا شيء وكل شيء، كان يحضر متأخراً جداً للبيت، وغالباً ما يعود مترنحاً، وأحياناً برفقته أحد ما، وقد يكون عدد من معه أكثر من واحد وليس بالضرورة أن يكون الحضور كلهم رجال، فقد كانت هناك أيضاً بعض النسوة مع الحضور.
كان السرير في الغرفة هو سبب الرعب الحقيقي للطفلة، فقد كان معداً في الأصل لنوم الوالد عليه، أما الوالدة فقد كانت تفترش الأرض بجانب أصغر الأطفال سناً، ربما حتى تعمل على تهدئته كي لا يبكي بصوت يزعج الوالد، الذي يتذمر صارخاً بصورة مرعبة في حال أحدث أحد ما من الأطفال، أو حتى الوالدة صوتاً مهما كان ذلك الصوت!! كان أزيز السرير الحديدي يرتفع أحيانا فوق العادة، فيتسبب في إيقاظ تلك الطفلة من النوم، تحاول أن تركز نظرها وتسبر أغوار العتمة التي تلف الغرفة، لتعرف سبب ارتفاع صوته المرعب، تبقى متسمرة في منامها ونفسها يلهث داخلياً وجسدها الصغير يرتجف، تسمع تنفس أحدهم وهو يعلو كما لو كان يركض هارباً من ثعبانٍ يجري وراءه، يدب الرعب في قلبها أكثر وأكثر، تشعر بأن العالم كله سوف ينهار فوق رأسها الصغير، وبأن أفاعي الأرض بدأت تجري خلفها وهي تركض لاهثة، تحاول الاختباء منها، تغطي رأسها وهي تضع أصابعها في أذانها، محاولة إيقاف زحف صوت الأزيز وهو ما زال يزيد ارتفاعاً، تكتم صرخة رعب تجتاحها كلما علا الصوت خوفاً من غضب الوالد، تشعر بأن الليلة لا مناص سوف تلدغها تلك الأفعى المرافقة للصوت، يجف حلقها أكثر من السابق، يبدأ جسدها النحيل في التعرق بصورة مفزعة، تفتح فمها لتصرخ أن الأفعى لدغتها، يتوقف الصوت، تفتح عينيها وتحاول استعادة رباطة جأشها، تركز في النظر بحثاً عن سبب ذلك الصوت وعن سبب توقفه، تشاهد طيفاً يغادر السرير، تراقب بكل تركيز متابعة الطيف وإلى أين يتوجه، فجأة تصرخ:
- أفعى ...شاهدت أفعى.
ينهض الوالد مشعلا ضوءا يعمل على بطارية يضعه بجواره ليلاً، يتوقف الطيف المتسلل من السرير في منتصف الغرفة، لقد كانت الوالدة !! عينيها تكاد تفر الدموع منها لولا الخوف، من أن يكشف الضوء المتسلل من مصباح الوالد هذه الدموع، لأطلقت لها العنان كما عادتها في كل مرة من المرات الكثيرة، التي كانت ترافق وجود طيفها واقفاً بعد هدوء أزيز السرير الحديدي، المترافق مع ظهور الأفاعي تجري لتلدغ الطفلة على أرض الغرفة، ربما كانت الوالدة أيضا لدغت بأفعى منها، أو أنها ترتعب منها، لذلك تتواجد كطيفٍ يقف في منتصف الغرفة كلما علا صوت الأزيز وظهرت الأفاعي !!...
يالهذا الارتعاش الطفولي ألماكن ، قصة طفلةٍ حاصرها الرعب حتى فطر قلبها ، وما أوجع أن يُحاصر هذا القلب الجميل ، ليس الظلام الحالك أو الأفعى المُتخيلة فقط هو من حاصرها بل رعب كثير تمثل في الظلام وبشاعته وتراتيبه وارتداداته ، كيف استطاعت هذه الطفلة وكيف تستطيع مواجهة الخوف في كبرها ، يا ألله يا أم ليث أنت أم حقيقية يكتظ قلبك بالود والأمومة والخوف على جيل تحاصره المُلمات..شكرا لإبداعك.
قد يسحبنا هذا النوع من القص إلى واقع اجتماعي مرير فهو نص توثيقي لحياة الفقر والبؤس وما يلحقهما من تخلف ووعي ناقص تحدده عناصر التفاوت الاجتماعي والطبقية .
الكاتبة رسمت هذا من خلال واقع اجتماعي حاضر يعاني من هذه التناقضات والتفاوت في الفقر الفاحش والغنى الفاحش فوصفت البيت والمطبخ لتلك العائلة وعممت الحالة لتشمل بيوت القرية الفقيرة ثم انتقلت الى موضوع اجتماعي خطير آخر وهو كثرة الأطفال وعدم تحديد النسل لما في ذلك من مخاطر اجتماعية في ظل حياة الفقر.
عملية لبس التنورة من قبل المعلمة وكشف ساقيها هي مشكلة اجتماعية يطرحها النص لتخضع للتحليل والقبول أو الرفض كإشارة للصراع بين العولمة والفتوى ! الفاقة هنا في هذا النص فرضت على العائلة النوم في غرفة واحدة وهي مشكلة اجتماعية تعاني منها الكثير من الدول الفقيرة أو الدول الغنية المسروقة من قبل حكامها ! وينعكس عنها الكثير من التفاعلات النفسية السلبية ، حين يمارس الوالدان مثلا المعاشرة الزوجية بوجود الأطفال ( وفي أحيان كثيرة بوجود المراهقين وحتى الكبار) في نفس المكان الذي يمكنهم من السماع إذا حجبت الظلمة رؤية ما يحدث ،. وصفت الكاتبة هذا المشهد وما يتبعه بحنكة وفن قصي وربطته بوجود" الأفاعي " كتعبير للمخاوف والأثر الاجتماعي الرجعي الذي سوف يخرج الطفل من عالم طفولته وعالم براءته لينشغل بتحليل تلك الحركات وأزيز السرير والتصاق الأجساد واللهاث .....
النقطة الأخرى التي أشار إليها هذا النص هي تفاوت المعيشة في القرية والمدينة !
و هو تفاوت طبقي مخيف ومتعمد من قبل طبقات حاكمة وطبقات ثرية وحزبية مستفيدة . "التنورة " هنا هي رمز هذا التفاوت الطبقي
إذ عبرت عنها الكاتبة بذكاء من خلال حالة التمني عند الطفلة التي مثلت رغبة بنات القرية في لبسها . التنورة هنا لا تعني تلك القطعة من القماش التي تكشف عن ساقي الفتاة او المرأة بل تعني المطالبة بالتساوي في الحقوق والتفاوت في العادات والتقاليد والإرث الاجتماعي والديني وخصوصية كل مدينة او قرية لا يعني التنازل عن الحقوق والعيش برفاهية كباقي البشر وسؤال الأب المتكرر لطفلته هو دليل تلك الرغبة في المساواة
ـ ـ ـ هل ما زلت تريدين التنورة؟؟!! ـ ـ ـ
السؤال هنا يقرأ من زاوية أخرى ليأخذ بعدا اكبر وأعمق من كونه سؤال عابر يراد به المزح مع طفلته لان السؤال يمكن ان يقودنا الى سؤال اكبر:
ـ هل لازلت يا طفلتي ترفضين وضعك الاجتماعي هذا وترغبين بان تتطور الحياة هنا في القرية ويعيش أهلها بشكل مقارب إلى حياة المدينة أي الحصول على وسائل الترفيه التي يتمتع بها ابن المدينة ؟
وهذا واقع في مجتمع حكم على ابن القرية أن يقبل بالقليل ويتنازل عن حصته في المواطنة والحقوق لصالح الإقطاعي أو الغني وهو الحال بالنسبة إلى ابن المدينة الفقير الذي يعاني هو الآخر أيضا من نفس التفاوت الطبقي والتمييز في الحقوق حين يحتل الأغنياء والسياسيون والأحزاب وبعض رجال الدين في المدينة والإقطاعيون في القرية حقوق الفقراء
إذن هناك أكثر من موضوع وأكثر من طرح وأكثر من فكرة في هذا النص المشحون بالجمال والمتعة وقد يحتاج ( لو سمحت لي الكاتبة ) إلى المزيد من الرص والتكثيف والانسيابية ليتناسب أكثر مع جمالية الفكرة والمضمون وتتكامل فيه العناصر التقنية والفنية وتزيده جمالا ورشاقة فوق جماله
شكرا لك سيدتي استمتعت بهذا النص المفيد وقد تسمحين لي ثانية بالتطرق إلى خطأ شائع في استعمال كلمة مهترئ
والصحيح هو متهرئ
وكذلك لا باس به قد تكون موفقة أكثر من لا باس فيه في سياق الجملة المستعملة
تحايا وتقدير
التوقيع
الدكتور نجم السراجي
مدير ومؤسس مجلة ضفاف الدجلتين ( 2008 )
يالهذا الارتعاش الطفولي ألماكن ، قصة طفلةٍ حاصرها الرعب حتى فطر قلبها ، وما أوجع أن يُحاصر هذا القلب الجميل ، ليس الظلام الحالك أو الأفعى المُتخيلة فقط هو من حاصرها بل رعب كثير تمثل في الظلام وبشاعته وتراتيبه وارتداداته ، كيف استطاعت هذه الطفلة وكيف تستطيع مواجهة الخوف في كبرها ، يا ألله يا أم ليث أنت أم حقيقية يكتظ قلبك بالود والأمومة والخوف على جيل تحاصره المُلمات..شكرا لإبداعك.
أستاذي القدير السنوسي
لا أستطيع إلا أن أكون كما أنا دوما أنشر رسالة إجتماعية وإن ارتدت ثوب القصة
عيوبنا المجتمعية كثيرة وبحاجة لكشفها
أشكرك على دعمك المستمر لي منذ البداية
تحياتي ومودتي
الكاتبة المبدعة والمتالقة رائدة زقوت
تحية وتقدير على هذا القص الرائع والبحث في غريزة الخوف من الظلام
وتخيل مسببات خوف حقيقية او وهمية من الافاعي ..
قصة جميلة فيها مقومات القص الابداعي من المقدمة والعقدة المنطقية والخاتمة
انها تشبة شاعر يكتب قصيدة التفعيلة بامكانية عالية وتصويرية متقنة
امتعتنا القصة ... كلك ابداع