بسبب الغفلة المستمرة والتي لا تنتهي مهما أقسمنا، تكررت رغما عني كلمة (وانتبهتُ)
.......................
كم كنت متعباً وكرهت كل ما اكتسبته من ثقافة حديثة وأنا أعود صغاري على سماع قصة قبل النوم. اليوم أنا متعب وصغيري يعبث بخطوط رسمها الدهر على وجهي، وكل ما يريده هو أن يسمع قصة جديدة. حاولت أن أقنعه بان ينام على أن أعوضه ما يفوته اليوم في يومه القادم لكنه أبى وبشدة. متعب ولكنني استسلمت لما يريد، وبدأت بقصة تحكي عن تعب الصالحين الأوائل وما بذلوه من جهد ودم وصبر وهم يضعون الأسس الأولى لقاعدة ستحمل أعظم بناء في التاريخ... تعبت أكثر وأنا أشعر أن عينيَّ منهكتان ولم يعد بإمكاني فتحُهما، وشعرت بارتخاء يده وهي تنزل على وجهي ببطء والكلمات التي كان يجب أن تأتي قوية صلبة لضبط إيقاع القصة والمحافظة على وتيرتها... شدتها ورقتها قد بدأت تذوب لتنزل من فمي وكأنها نقاط لا تساوي في حجمها الحرف، شعرت أن النعاس يسحبني من قدميَّ إلى قاع النوم. حاولت أن أقاوم، لم أفلح وقد كنت أسمع آخر كلمات طفلي الشقي وهو يقول لأمه (نَيَّمْتُه)، أردت أن أبتسم... وربما أكون قد ابتسمتُ، وسمعته يطلب من أمه أن تضبط له التلفاز على محطة طيور الجنة.
وامتد سلمٌ من الأرض إلى السماء، وأنا أقف في طابور بشري تعجز كل الألسن عن عد من يقفون فيه، كنت أمسك بحقائبي بطريقة جيدة وكل ما في رأسي
أنني مسافر... ووضع طبيعي أنني مسافر لم يخطر على بالي أي دهشة، أو انفعال المسافر كحال غيري من الذين يقفون بأعداد هائلة ويحملون كذلك حقائبهم ولم أكن أعرف حينها إلى أين ستكون وجهتي.
بدأنا في الصعود وقد كانت خطواتنا سريعة جداً... المشهد كان مدهشا ونحن نخترق السحب وقد كنت أسترق بعض النظرات إلى حديقة البيت من الأعلى ولكم بدت جميلة وهادئة، خالية من الصخب والضجر.
وصلنا إلى باب مغلق لا أعرف في أي اتجاه يُفتح، أردت أن أرفع يدي لألمس السماء لكن رهبة بداخلي منعتني، دورت ببصري أشرب من جمال منثور من حولي، أحتاج إلى دهر في شربه ولا أرتوي... وجاء صوت الأزيز قويا والباب إلى الأعلى يرتفع... فتح مرة واحدة لنكمل سيرنا والسلم ما زال يرتقي، ويرتقي، واختفت كل المشاهد من حولي لم أعد أرى إلا بشراً يمشون أمامي أو من خلفي وبقينا على هذه الحال، خطوة سريعة ومسافات تطوى حتى وصلنا إلى قاعة لا حدود لها، يعجز الوصف عنها، طولها عرضها ارتفاعها... وفجأة ظهرت مخلوقات لم أرَ خلال حياتي مثلها كانت جميلة وصلبة، فرقت الطابور الواحد الممتد إلى طوابيرَ بسرعة مدهشة وكل طابور ذهب في اتجاه حتى لم يعد أي منا يعرف في أي اتجاه هو، أو إلى أين ذهب الآخرون وأنا كنت ما زلتُ أمسك جيدا بحقائبي، وأحافظ على مكاني حيثما وُضعتُ. وما هي إلا لحظات حتى دخلنا في قاعة أخرى وفي آخر القاعة يجلس رجال لم أعرف لهم من قبل شبهاً يجلسون على
مقاعد فخمة خلف طاولات واسعة متقنة الصنع، وُضع عليها ملفات لا تحصى وانتبهنا إلى منادٍ ينادي: كل من يسمع اسمه يتقدم ليقرأ عليه عمله ولن يفوته شيء فقد أحصينا كل صغيرة وكبيرة، وكل شاردة وواردة، فمن كان مجموع ما حصل عليه يؤهله إلى جنة المأوى دخل من هذا الباب إلى سعادة مطلقة لا تفنى، وأما من كان شقياً و كان مجموعه لا يؤهله دخل من هذا الباب إلى جهنم؛ عذاب مقيم لا يموت فيها ولا يحيا...
ارتعدت أوصالي وسقطت حقائبي من يدي، تصبب عرقي وأنا أرى أكثر من في الطابور يدخلون من الباب الشمالي، كنت اسمع صريخهم واستجداءهم وتعبت لم أعد قادراً على الوقوف، نظرت أمامي كان لا يزال حشد هائل وأدركت أن زمنا طويلاً جداً سيمر قبل أن ينادوني باسمي، أردت أن أستأذن في الخروج من الطابور لم أقدر، ولاحظت تقدم أحدهم مني وهو يلاحظ ارتباكي... نظر في وجهي وفتح ملفا صغيرا وبعد أن أمعن النظر قال بإمكانك أن تجلس هناك قليلا، وأشار إلى مقعد فركضت وجلست وأنا أتساءل كيف أدخل يوم الحساب وأنا لا اعلم...؟! كيف فاتني أو كيف لا أذكر أنني مِت من قبل حتى أُحشر؟! لم يخبرني أحد أنه الموعد... وفي غمرة هذه الأسئلة والاضطراب بحثت عن علبة سجائري فلم أجدها، ربما هي في الحقائب خطر ببالي أن أقوم وأبحث فيها لكنني استدركت أن التدخين كان محرماً في الدنيا، فكيف أجرؤ على إشعال سيجارة وأنا في انتظار إما أن أسعد أو أن أشقى، تمنيت لو أنني أملك حبة مسكن للصداع، أو حبة منوم تخلصني من خوفي، شربة ماء باردة، وانتبهت من أمنياتي وذلك المخلوق يعيدني إلى الوقوف في الطابور، مضت مدة طويلة والخوف والرعب لا يزالان يتمكنان مني أكثرَ، وبدأت أتحاور مع نفسي إلى أين أنا...؟! قالت: أنت تعرف مصيرك، قلت لها تباً لكِ، أنا أتحدث عن نفسي لأني أعرف من تكونين وأين ستكونين، ضحِكَتْ بصوت مرتفع وهي تقول لي: تباً لكَ أيها الأحمق، أو لستُ أنا نفسك... أم أنكَ الآن تريد الخلاص مني؟ قلت لها: لمْ تأمريني بمعروف قط، بل ولم تنهيني عن مكروه، وكل ما كان يشغلك هو أنتِ ورغباتكِ التي لا تنتهي، قالت: أو لم تكن تشاركني تلك الشهوات؟! قلت: كان عليكِ أن تتذكري لحظة كهذه، قالت: ولمَ لمْ تتذكر أنت...؟! وضحِكَتْ مرة أخرى بصوت بغيض...
تشاجرنا وعلا صوتنا، وزجرني أحدهم دون أن يكلمها، شعرت بالامتعاض والحزن وانتبهت فإذا أول الطابور قد صار قريباً ولم يعد يفصلني عن الذين يجلسون خلف الطاولة إلا مسافة بسيطة فصعقت وكدت أبكي... ارتفع صوتي لم يعد في قدميَّ أعصاب لتحملني وبللني العرق والمسافة تُقضمُ، فكرت في الهرب لم يكن ذلك ممكنا وصرت أعد على أصابع يديَّ من هم أمامي والمسافة تصغر، أغمضت عينيَّ وأنا أفكر أنني لا بد وأن أناقش هؤلاء في قرارهم إذا كنت سأذهب شمالا وسأطلب تدقيقا على كل فعل وأطلب شهوداً، سأستأنف وأميز وشعرت أن قلبي يسقط من بين ضلوعي وأنا أسمع المنادي وهو يلفظ بكل وضوح اسمي... حاولت أن أتنفس، لم أتمكن، كنت أقف في مواجهتهم تماما، نظر ذلك الجالس في الوسط إليَّ وهو يفتح ملفا يصل إلى سقف الغرفة، ثم عاد ونظر إليَّ وهو يبتسم وسألني: محمد؟ قلت: نعم، هز رأسه فاهتزت كل عظامي وتفتقت كل أوردتي، ثم همس في أذن الجالس إلى يمينه، ثم في أذن الجالس إلى شماله، ثم جمعوا رؤوسهم بشكل متقارب وكأن خلافاً دار بينهم، إلا أن ثمة ابتسامةً كنت أراها في وجوههم وأنا أحاول أن ابتلع أي شيءٍ قد أعثر عليه في ريقي، أريد أن ينتهوا لأستريح ولا أريد لهم أن ينتهوا فالأمر مخيف، وأخيرا عادوا إلى جلستهم نظر ذلك الجالس في الوسط إليَّ وهو يقول: محمد، تأتينا في الغد فقد انتهى دوام هذا اليوم... شعرت في البداية أنه يسخر مني، ولما أعاد نفس الكلام نظرت إليه وأنا لا أسيطر على ما يدور في رأسي، ابتسمت قليلا فابتسم، ثم ضحكت فضحك وضحكت حتى ارتفع صوتي وكأن جنونا أصابني، حاولت أن أمسك نفسي لم استطع، لكن اهتزازاً عظيما حدث لأنتبه أن الطاولة اختفت وكل من كان وراءها والقاعة والأبواب وبدأت أتهاوى، أتهاوى وأتهاوى حتى سقطت عن الكنبة التي كنت متمددا عليها وأنا أروي لصغيري قصة ما قبل النوم، وانتبهت فإذا الطفل يضحك وأمه تضحك، وأنا مندهش... ضحكت وطفلي يغني مع محطته طيور الجنة، طائر النورس حلق حلق، وقفت على قدمي أردد خلفه بجنون حلق حلق، بجناحيه صفق صفق، صفق صفق. أوقفتني زوجتي لتسألني: ما بك؟! قلت لها: لا أعرف!!! وإن كنتِ تريدين إجابة، تأتين في الغد، فقد انتهى الدوام لهذا اليوم. وعدت إلى الغناء مع ابني بصوت مرتفع: طائر النورس حلق حلق، بجناحيه صفق صفق، وفرحة تغمرني، موجة من البكاء تذبح صدري وتخنقني...!!!
التوقيع
قبل هذا..ما كنت
أميـــز..
لأنك كنت تملأ هذا
الفراغ..صار للفراغ
حيــز.!!
رؤية جميلة جسدت معاناتنا في مراجعة الذات والنفس البشرية على مسيرة العمر ومحطاتها وما سيكون حسابنا يوم الحساب
نهاية اجمل وقفلة رائعة جعلتني افرح لفرحكم واعيش معكم اللحظات الجميلة
رؤية جميلة جسدت معاناتنا في مراجعة الذات والنفس البشرية على مسيرة العمر ومحطاتها وما سيكون حسابنا يوم الحساب
نهاية اجمل وقفلة رائعة جعلتني افرح لفرحكم واعيش معكم اللحظات الجميلة
تُعلق
تحياتي
أديبتنا القديرة عواطف عبد اللطيف
اجتمع الحضور الراقي بالقراءة المدهشة والثرية
فشكرا بحجم الكون وأكثر على اهتمامكم الكبير
وعنايتكم الرائعة ..وتشجيعكم الدائم
شكرا على تثبيت النص أديبتنا المكرمة
بوركتم وبورك نبض قلبكم النقي
احترامي وتقديري
التوقيع
قبل هذا..ما كنت
أميـــز..
لأنك كنت تملأ هذا
الفراغ..صار للفراغ
حيــز.!!
هذا حلم راودك وصلك الدور وقيل ارجع غدا لم يأت دورك،هذه ذكري للذاكرين ودعوة للهداية والاصلاح فلنغتنمها لغة النص حلوة جدا ومتقنة وعناصر القص متواجدة بقوة وبفن واتقان
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد فتحي عوض الجيوسي
هذا حلم راودك وصلك الدور وقيل ارجع غدا لم يأت دورك،هذه ذكري للذاكرين ودعوة للهداية والاصلاح فلنغتنمها لغة النص حلوة جدا ومتقنة وعناصر القص متواجدة بقوة وبفن واتقان
كم كنت أسعد و أنا أقرأ القصص هنا بنبعنا الاصيل
وربما هذامن بين الاسباب التي دفعتني وبقوة للعودة حتى أتشرف بقراءة القصص التي تفتح شهية الاصغاء
وخاصة إذا كانت قصة تجمع بين الحقيقة والخيال الذي رسمته في حلم قادك الى نهاية جميلة مزجت فيها بين الجد والهزل
لك مني كل التقدير