رنّ الجرس في ساعةٍ متأخرة .. رنينه يشرخ هدوء الليل .. أصمت بإصغاء .. يرن مرةً أخرى .. قلتُ لنفسي : مَن سيأتينا في هذهِ الساعة المتأخرة .. تحركتُ بتمهل ، فقد يكون ما أنا فيه مجرد تخيل .. ويرن للمرة الثالثة .. أُوقظ زوجي الراقد بجانبي :
_ خالد .. خالد .. أحدهم يدق جرس الدار .
_ ليسَ هناك أحد .. نامي !
غطى رأسهُ وعاد إلى نومهِ . ويرن من جديد .. خرجتُ من الغرفة .. أنرتُ ضوء الصالة .. فمنطقتنا أمينة ، ولا داعي لأي خوف .. وفتحتُ الباب .. امرأة ورجلان .. المرأة سلمت عليَّ أولاً وبعدها الرجلان .. وبادرت السيدة :
_ هل تسمحين أن ندخل ؟
خجلتُ أن أقول لها : " مَن أنتم " وبشكل لا إرادي مددتُ يدي إلى الجهة اليمنى لأسمحَ لهم بالدخول ، فقد يكونون أقارب زوجي !
ودخلت هي قبلهم .. وبعدها الرجل الأول .. انحنى نحوي بطريقةٍ وديةٍ ، فحركتُ له رأسي بتودد رداً بسيطاً على تحيتهِ الجميلة .. أما الثاني .. مد كفه لمصافحتي .. وترددتُ بعض الشيء قبلَ أن أمدّ له كفي .
جلسَ الرجلان في صدر الصالة والمرأة وقفت إلى جانبي لتجلس حيث أجلس .. فقلتُ بكرم : أهلاً وسهلاً.
وبعد تردد لم أستطع إخفاؤه أو تبريره :
_ لأوقظ لكم خالداً .
فردت السيدة بطيبة :
_ لا تقلقيه ، فنحن زواركِ .
بنظرة تحمل الشك والتساؤل معاً تطلعتُ إليها .. وشعرتُ بنوع من الخوف .. إذن ، هم ليسوا أقاربه كما ظننت .. ياربي .. ماذا يريدون مني في هذا الليل ؟ .. ومَن يكونون ؟ .. فأنا لم أفعل شيئاً !
نهضت لأقوم بواجب الضيافة على الأقل .. فدعتني السيدة للجلوس ! بدأت أنفاسي تضيق وأحسستُ بانقباضٍ مرعب .. اضطربت عندما حدقتُ في عينيها .. وربما توقف القلب عن النبض في تلك اللحظة .. وقفتُ مدهوشة وكأني نسيتُ كل شيء ! عيناها تلمع ببريقٍ أحمر .. شعرتْ بخوفي فقالت بهدوء :
_ نعلم انهُ وقتٌ متأخر ، لكننا لا نستطيع أن نزوركِ في النهار .
الخوف تشعبَ إلى كل جسمي بقشعريرة برد .. وبومضةٍ رأيتُ قافلة من صور الجان تعبر مخيلتي ، لكن تبادر إلى ذهني في الحال – كما قرأنا عنهم – ان الجن ليسوا كالبشر .. نظرتُ إلى الرجلين .. عيناهما تلمع بنفس البريق .. تمالكتُ نفسي بعض الشيء ورديت بصوت خافت يكاد يسمع :
_ بماذا أستطيع أن أخدمكم ؟
رفعَ إليّ – الرجل الذي حياني – وجهه .. وقال :
_ بالحقيقة نحنُ قصدناكِ في خدمة .. ولأننا نعرف طبيعة مجتمعكم ، فقد جلبنا معنا امرأة لكي تطمئني .. ولكي تسمحي لنا بالدخول .
لم أستوعب ما كان يقوله من الرعب الذي سيطر عليّ .. فقاطعته:
_ اسمح لي .. مَن أنتم ؟ .. وماذا تريدون مني ؟
نهضَ الرجل وتقدم باتجاهي وجلس بجانبي :
_ اطمئني ، فقد قصدناكِ بخير .
لم أجب مؤثرةً الصمت .. وأكمل بعدما شعرَ بأنهُ استطاع أن يُهدئني :
_ سيدتي .. أنتِ كاتبة راقية جداً بنظرنا .. وكنا نقرأ ونتابع لكِ في مجلة " اليوم " روايتكِ " عنقود الكهرمان " وكما تعلمين نشرتِ الجزء الأول فقط .. والثاني لم يُكمل .. لماذا ؟
_ أجئتم في هذا الليل لتسألوني هذا السؤال ؟
_ نحنُ لسنا من الأرض .
حينَ قالها أردتُ أن أصرخ . دقات قلبي تزداد وترتفع .. تقرع في رأسي كناقوسِ كنيسةٍ قديمة .. ترتجف يداي .. ويجف فمي .
انصرفت عيناه عني بعدَ أن كان يُحدق فيّ ملياً .. اقتربت السيدة أكثر مني .. وأحسستُ بملامسة فخذها لفخذي .. ووضعت يدها على كتفي :
_ أرجوكِ .. اهدئي .. واطمئني .. لسنا هنا لنضركِ .. بل بالعكس .
فجاوبتُ بحدة :
_ بكل بساطة .. المجلة أُغلقت !
فردَ الرجل الثاني من مكانهِ :
_ والجزء الثاني موجود لديكِ ؟
_ بالتأكيد .
_ زيارتنا من أجلِ هذا .
وتقدم هو أيضاً .. ووقفَ أمامي ، فقلت :
_ وضحوا لي أكثر ؟
_ ما نشرتهِ هنا كان يُنقل إلى مجلةٍ أخرى لدينا .. وأنا رئيس تحريرها .
قاطعتهُ بابتسامة :
_ وهل تنشرونها بالعربية ؟
فابتسم لابتسامتي :
_ لا .. بلغتنا !
وجدتُ نفسي عاجزة عن التعبير بصدق عما أشعر بهِ وأُريد قولهُ .. شعرتُ أن عينيّ اغرورقت من شدة التأثر لهذا الفرح المفاجئ ! .. وذلك الخوف المرعب تبدد إلى فخر وزهو لا يوصفان .. فأكمل :
_ لدينا مندوبون في الأرض ، وهم يقومون بترجمة الأعمال الجيدة .. وروايتكِ لاقت الاستحسان لدينا .. وبعدَ أن انقطعت توقفنا نحن أيضاً عن تكملتها .. والغريب .. وصلتنا رسائل كثيرة – بالآلاف – تطلب تكملة الجزء الثاني .. ولم ندرِ ماذا نفعل ؟!
_ أتعرفون .. مر على انقطاعها أكثر من سنة .. ولم يسأل عنها أحد هنا .
_ انها رواية من طرازٍ خاص !
أحسستُ بالإشراق ينبع من أعماقي .. فنهضت .. ودخلتُ غرفة المكتب .. وأخرجتُ من الدرج الجزء الثاني والثالث من روايتي " عنقود الكهرمان " .. وضعتها في ظرفٍ أبيضٍ كبير .. وكتبتُ عليهِ بخطٍ واضح : " إلى قرائي أينَ ما كانوا " !
قدمتُها للسيد فابتسم حين قرأ تلك العبارة على الظرف .. وصافحني بقوة هذهِ المرة .. وسألني :
_ كم تطلبين ؟ قولي ما شئتِ وسيكون لديكِ ؟
_ لا شيء .. إنها هديتي لقرء غرباء يسألون عني .
فتقدمت السيدة نحوي .. وأخرجت علبة حمراء من جيبها .. علبة ما رأيت بجمـالـها
وتصميمها البارع :
_ هدية متواضعة جداً لك .
وضعتها على الطاولة القريبة منها ..صافحوني .. وخرجوا وبقيتُ أنتظر لأعرف كيفَ سيغادرون ! .. ابتسمت .. وابتسامتها لم تظهر سوى في عينيها .. لم تُغير تعابير وجهها .. فقط أضاءتها .. وكأن نوراً نبع من داخلها فأضاء وجهها .. وقالت :
_ أرجوكِ .. اغلقي الباب .
قبلتُ رجاءها وعدتُ إلى الصالة .. فتحتُ العلبة ، فتلألأ ما بداخلها وسطعَ أمام عينيّ .. سحبتُ السلسلة فتدلى منها " عنقود من الكهرمان " !
الأعزاء سولاف هلال و سمية اليعقوبي وعبد الرسول معلة
تحية بلون الورد وبِبُعد السما
أشكر مروركم الكريم وكلماتكم الجميلة
اسعدتموني حقاً
فأكثر شيء يسعد الكاتب أن يجد مَن يقرأ له بحب
دمتم سالمين ومبدعين
أخي العزيز مشتاق عبد الهادي أشكر ترحيبك الجميل وأشكر طيبتك وكرم أخلاقك العالية للعلم.. مشتاق عبد الهادي قلم مثابر ونشط أتمنى له ولأفراد عائلته كل الخير والسعادة والنجاح