هل رأيتِ موت ظلي – 5 -
عذابات العرافة
أخذت العرافة كفي, سكنها رجفة وغادرها الكلام وذهب النور عن عينيها, لم تر على كفي غير بياض مثل دمع الصبح.. قذفت الودع على صدر الرمل, سقط الودع صريعا, لا ينبس عن وشوشة ولا يصدر عنه همس ريح.. فهل أدرك الودع الصيام!!
سحبت كفي.. عبرتني رجفة مغمسة بإكسير الياسمين.. أغلقت العرافة عينيها على عجز.. ترتجف وتشيح عني, وخرج صوتها من سرة الموت:
- أنت المرجوم بها يا فتى..
ريح غزتني.. صارت زوبعة من ياسمين.. من يصدق أنني أعاشر امرأة من ريح وأقتات على العبق حتى ذروة الصهيل.. كلما اقتربتُ من الشبع يأخذني الوجد إلى جوع جديد..
هل يخذلني الياسمين ويغادرني الشتاء على جفاف!! أم سأظل أنثر في فلوات الروح بذور الانتظار؟!!
***
همس ريح ما أسمع, أم وشوشة بعيدة..
أغمضت العرافة عينيها, جاست أصابعها في دروب كفي, راحت في الصمت حتى أدركها النوم/ قل الموت.. فتسمرتُ على رجفة بين النوم والموت..
صحت العرافة من نومها أو من موتها.. قالت بصوت أعياه التعب وكانت غاضبة:
- كل الدروب سد يا فتى, والغيوم بلا غيث.. إنه وقت الغواية وموت الرحمة في قلوب العباد..
نهضت العرافة امرأة عفية.. صارت غزالة, أخذتني إلى صدرها صارت نخلة جذورها في بلاد الرافدين, وهامتها مطرزه بعناقيد من نساء راغبات يصدحن غناءً, ألقت العرافة الودع على بساط الرمل, أرهفت السمع, ربتت على عين قلبي, قالت يوجعها الكلام:
- هي تنتظر عند ناصية الوجد, لكن الوقت حصار..
ومضيتُ.. كل الدروب يصادرها العسس.. وركبت حصاني إلى ضفافك, ورقصت على إيقاع خطواتكِ ونزفتُ على نزفك..
***
قالت العرافة:
في غيبة الوقت يغلف الضباب وجه الأمكنة, وترحل المدن بعيدا.. ويهرع العاشق إلى مطارح محفورة في القلوب, يقتات على الذكريات حتى تخمة الفقد, يحمله حصان الفرح, يأخذه إلى ناصية الحلم, يقطع المسافات في رفة عين, وحصاني يصهل لا يتوقف عن المسير.. والريح تحمل صدى وشوشة بعيدة.. أرهف السمع.. ينبت على رأسي بعض ريش.. يصهل حصاني:
- ما الذي تعتمره يا فتى؟
توقف الحصان عن العدو.. كان الحصان يلهث كمن دخل سباق.. قال:
- رفة الحلم انتهت..
وصحوت.. كانت العرافة تسأل الودع عن حالي.. قالت:
- إنه ريش الرخ أيها المسحور.. تلك إشارة وبشارة يا أمير..
- هل أعود إلى الحلم من جديد
- الحلم ملاذ العاشقين..
في الحلم صار كفي حقلا من سنابل, وكانت ترفل بالوجوم, تحبس الدمع أهات أسيره..
أخذت العرافة كفها وضعتها عند بؤرة القلب منها.. هتفت بها:
- تذوقي بعض نبضك..
يا إلهي صارت المرأة غيمة دلقت أحمالها غيثا لطيفا, ومضت تحمل في كفها وشم أمير, وهبطتُ عن ظهر حصان النوم, كان الوقت يتمطى بانتظار رعونة صباح من زمهرير, الريح عاتية, ونصل الوجد يقطع لحمي يشويني على نار الصقيع..أصرخ على ذهول.. تبعثرني العتمة ولا ضوء يلوح.. والوقت ملبد بالغياب ولا مطر.. أين المفر!! وتحسست رأسي نبت الريش على رأسي صار تاجا.. ضحكت العرافة قالت على غنج:
- تاج رأسك من ريش جناح الرخ.. هل نسيت أم تناسيت الإشارة والبشارة..!
فجأة حطت على رأسي يمامة. نزعت من تاج رأسي ريشة وطارت شقت الغيم.. لمع برق.. ثم رعد وانهمر المطر.. هبطت على نافذتي قطرات المطر.. رقصت القطرات.. صارت سربا من صبايا مثل بدور الحكايات.. كلهن أنتِ.. إلا أنتِ.. وفردتُ كفي.. وصرختُ من وجدي أستجيرِ:
- أين أنتِ
***
من يصدق أنني فرخ يمام, حملني الرخ وطار.. حلق بي فوق الغيم.. صارت الدنيا من تحتي بحجم قطرة وجد.. فشربت ماء الغيم شهدا, ورأيت امرأة تشع بالعبق.. هبطت علىَّ من غيم بخار الياسمين.. هتفت بي:
- أني انتظرتك.. لا تبتعد.. حاصر فؤادك واقترب..
- كيف لي أن اقترب وأنا المرجوم بالمنفى..
ضحك الرخ وقال:
- أنت الآن في مدى الأحلام تقطع المسافات في رفة عين..
وصحوت..
كانوا في انتظاري.. خرجوا عليَّ من كل الشعاب, من كل الرزايا قيدوني, وكانت التهمة حاضرة فأقاموا المحكمة:
- أنت المرجوم بها منذ الأزل!!
- مع سبق الإصرار إني أعترف..
شق السياف صدري, نفر الدم من قلبي صار غيمة من بخار الياسمين.. وكنتِ أنتِ حورية ترقصين على إيقاع نبضي وتغني..
"لا غربة للروح, وإن اغترب الجسد.."
لن ينالوا منك أنت على بعد رفة عين مني
لا تغترب.. هيا اقترب
***
ويقال أن العرافة, لم تعد تقرأ الكف, ولم توشوش الودع, واحترفت أخبار مَن يلوذون بالحلم من عسف البشر, وينتظرون رحلة الرخ الثانية..
وقيل أن العرافة أقامت مجلسها بعد نهاية الفصول, تقرأ في كتاب الوجد أخبار المكان والزمان, وأن الله خلق الجسوم من طين ووزع أمزجتها على أربع حالات تتجلى في الفصول الأربعة, وجعل للروح فصلا خامسا لا يدرك كنهه إلا من أدرك عبق الياسمين..