هو شخصيا لا يحب الملح ويأكل طعامه حلوا. ضغط دمه دائم الارتفاع يصيبه بالصداع ويهدد صحته وراحة باله. معظم الأطباء حذروه من الإفراط في الفرح او الحزن والابتعاد عن المشاكل ومصادر الهموم.. واليوم قرر الانخراط في الإضراب مهما كانت النتائج. لن يتخلى عن زملائه ولو فقد حياته. الاعتماد على الملح والماء فقط لن يكون في صالحه.
لا ينكر أنهم نصحوه بل توسلوا إليه محاولين إقناعه بالعدول عن موقفه قائلين:
- نحن نقوم بالمهمة على أكمل وجه، أما انت فلست مطالبا بشيء أبدا، انت مريض وليس عليك حرج، ارحم نفسك وارأف بأولادك وزوجتك. قد يأتي يوم قريب تخرج فيه بصفقة وتفوز بحريتك ولعله يكون قريبا. دورك ان تشحذ همم الأسرى خاصة صغار السن منهم ممن لم يخوضوا الإضراب قبل ذلك. نحن نعتمد عليك كثيرا كونك أسير قديم ولك الخبرة والحنكة. وأنت مثل يحتذى به ولك ماض مشرّف داخل السجون والمعتقلات .
لم يبد على ابو صمود انه اقتنع وازداد عنادا وهو يقول :
- لن اقبل ان أكون قوقعة محشورة في الزاوية ولن أتنازل عن المشاركة ولو كلفني الأمر حياتي.
لم يجد مسئولو التنظيمات داخل المعتقل سبيلا لإقناعه، فتوزعوا على جميع الأقسام ليقوموا بواجباتهم التنظيمية يشرحون لبقية زملائهم ما هم مقبلين عليه.
- سنقوم بعملية احتجاج واسعة وسنستخدم سلاح الأمعاء الخاوية في موقعة حياة او موت: حياة أفضل او موت مشرّف .
التحضير للإضراب احتاج ثلاثة أشهر على الأقل وهم يهيئون الأسرى معنويا ويزرعون في عقولهم القناعة ثم التصميم.
- سنربح المعركة رافعي الرؤوس ... ولن ننكس أعلام الرفض والتحدي.
آلاف الأسرى يخوضون إضرابا طويلا كما هو متوقع من اجل تحسين ظروف معيشتهم ومن اجل الحفاظ على كرامتهم وعزتهم.
بدأ اليوم الأول .. الإعلان والإمساك عن الطعام والشراب باستثناء الماء والملح. وعند العصر نظر قائد الإضراب ابو مريم الى جسد ابو صمود المسجى على البرش .. عيناه مغلقتان .. تنفسه بطيء ويبدو على وجهه التعب. عند أذان المغرب بدأ لغط وأحاديث متفرقة بين الأسرى .. يتذكرون رمضان
- حان وقت الإفطار .. ولكن هنا إفطار متأخر قد يأتي وبعضنا قد فارق الحياة.
حاول ابو صمود القيام من برشه والذهاب الى دورة المياه. ارتعشت قدماه تحته ورجع جسده الى الخلف، فأمسك بعمود الخيمة وهو يتأوه. أسرع إليه احدهم وامسك بخصره.
- لا تنهض مرة واحدة يا زميلي .. والتزم بالإرشادات.
- الظاهر ان الضغط عندي ارتفع .. اشعر بالغثيان.
كانت الخيام تحترق بلهيب الصيف القاسي.. صيفا لم يمر مثله كما تقول الأرصاد الجوية، كانت دورة المياه بعيدة في طرف القسم الشمالي.. ترتفع عن مستوى الخيام ويصعد لها بسبع درجات. تبدو مسافة طويلة ومضنية لمن لم يتناول الطعام منذ الصباح الا قليلا من الملح كي لا تفسد المعدة وتتعفن. والماء حار في براميل بلاستيكية تغطيها أكياس الخيش.
بدا ابو صمود متهالكا وهو يسير ببطء شديد يتكأ على اثنين من زملائه. كانت التعليمات تقضي بعدم المشي كثيرا والسير ببطء شديد لقضاء الحاجة فقط.
- يجب ان نظهر الإنهاك والتعب حتى لا يتم تصويرنا وتسجيل نقطة علينا يتم استغلالها في المفاوضات ونقلها لمندوبي الصليب الأحمر كما حصل في المرة السابقة.
سارت الأيام بطيئة تحمل حر الشمس على ظهرها وتسلطه على أجسام الأسرى، وفي صباح اليوم الرابع أعلن الأسرى أنهم سيقومون بالعد الصباحي والمسائي وهم نيام لأن العد في وضع الجلوس أصبح صعبا وستقتصر حركتهم على الذهاب للحمامات فقط .
الحرارة الشديدة قلبت الخيام الى أفران في النهار والليل وهبت رياح خماسينية جافة زادت من معاناتهم وسحبت السوائل من أجسادهم عادلتها المياه الساخنة التي يشربونها .
حوالي الساعة الحادية عشرة صباح اليوم السابع انتبه الأسرى على صفارات الإنذار التي صمّت آذانهم وارتجت لها قلوبهم، فانطلقوا الى خارج الخيام وعمّ الإرباك وهو يشاهدون أعداد كبيرة من الجنود في كامل عدتهم يرتدون الأقنعة ويحملون بنادق إطلاق الغاز يتبخترون بمشية عسكرية ويطلقون أناشيد القتال . أحس جميع الأسرى بقوة شملتهم بغتة وانسل الإرهاق من أجسادهم وكأن
شيئا لم يكن وخرجوا الى الساحة. كان ابو صمود يقف شامخا ويصرخ بأعلى صوته :
- تورانيم .. استعدوا للقتال .
كان اصغر أسير في القسم يقف بجانب ابو مريم فأمسك بيده وهو يسأله :
- ما هي التورانيم؟
أجابه ابو تغريد بسرعة: "هم مساجين يهود جنائيين في أقسام خاصة بهم، يتم استخدامهم للقمع عندما يتعلق الأمر بنا. جهز نفسك لتتقي خطر الغاز كما تعلمت".
شعر كل الأسرى بقوة خارقة تجتاحهم وبأن لديهم طاقة لا متناهية في أجسامهم التي ألقت عنها الوهن والضعف وتحولت الى كتل من العزيمة تجري فيها دماء حارة صلبة.
استمر العرض العسكري العنجهي ساعة من الزمن قبل ان يصدر أمر بالانسحاب، وجميع الأسرى يقفون خارج خيامهم يتشربون أشعة الشمس الحارقة . وعندما اختفى آخر جندي من جنود القمع بدأ الأسرى في كل الأقسام يكبرون ويهتفون لفلسطين وأصواتهم تصل خارج الأسوار والبوابات التي يحيط بها مئات من أهاليهم ومن المتضامنين معهم، الذين اشتركوا معهم بهتافاتهم وهم يرفعون الأعلام وصور الأسرى المضربين. وفجأة ألقيت قنبلة دخان داخل القسم والقي غيرها على جميع أقسام المعتقل السبعة، فحدث إرباك وتدافع، وزاد الأمر تعقيدا حين أطلق جنود أبراج المراقبة الرصاص في الهواء. دخل الجميع الى الخيام واختبئوا تحت الحرامات والملابس كي يتقوا سحب الغاز، ومنهم من حاول إغلاق الخيام منعا لتسرب الغاز. تناثرت بعض الأجساد في الساحة، فاندفع البعض وهم يغطون أنوفهم بملابسهم وجروهم الى داخل الخيام القريبة. وفي خارج الأسوار تفرقت الجماهير المحتشدة وابتعدوا عن تأثير عشرات قنابل الغاز التي ألقيت باتجاههم. بعد حوالي نصف الساعة انقشعت سحب الغاز، فخرج الأسرى من خيامهم وتقدمهم ابو مريم وهو يبحث عن ابو صمود هاتفا باسمه. اقترب ممثلو القسم من البوابة الرئيسية اتجاه مدير المعتقل الذي وقف وهو يحيط وجهه بقناع يحميه من الغاز يحيط به عدد من الضباط والجنود. فصرخ به ابو عذاب طالبا منه إحضار طواقم الإسعاف وإخراج المصابين .
كان ابو صمود مستلقيا على ظهره داخل إحدى الخيام جاحظ العينين، فحمله أسيران بسرعة وادخلوه عربة الإسعاف التي وصلت باب القسم مع ثلاثة أسرى آخرين.
تحدث مدير المعتقل مع ابو عذاب ممثل المعتقل الرئيسي وحذره من تكرار ما حدث . الا ان ابو عذاب اخبره ان جميع الأسرى مستعدون للموت ان تكرر الاستفزاز وضايقوا الأسرى المضربين مرة أخرى. وشدد على ان الإضراب هو احتجاج سلمي من اجل تحسين أوضاعهم .
استمرت الأحداث كما هي: الأسرى يطالبون الادارة بالحديث معهم من اجل إنهاء الإضراب والإدارة تطالبهم بحل الإضراب وتناول الطعام أولا ثم التفاوض.
حاول ممثلو القسم معرفة مصير ابو صمود الا ان الادارة تكتمت ورفضت الإدلاء بأي تصريح حوله
في اليوم الحادي عشر للإضراب انتشرت إشاعة تقول ان ابو صمود استشهد، الا ان الخبر لم يؤكد وتسرب خبر من مستشفى السجن يقول انه يعيش ولكن على الأجهزة.
في اليوم العشرين سمح لممثلي الصليب الأحمر بدخول المعتقل، وبعد ان اجتمعوا مع إدارة السجن طلبوا ممثلي الأقسام . فاجتمعوا معهم واخبروهم ان إدارة المعتقل قد تفاوضهم خلال يومان بحضور مندوبيهم. وعندما سألوهم عن أبي صمود جاء جوابهم ضبابيا دون تفاصيل او تأكيد لحالته.
في اليوم الثالث والعشرين ادخل المستشفى عشرة أسرى تدهورت حالتهم الصحية . وفي مساء نفس اليوم ابلغ الصليب الأحمر الأسرى بأن إدارة المعتقل تراجعت عن مواقفها في الحديث مع الأسرى قبل ان يحلوا الإضراب بالكامل.
في اليوم الثامن والعشرين دخل عدة ضباط مخابرات كبار على غرفة العناية المركزة داخل مستشفى عسكري خاص ملحق بالمعتقل يرافقهم طبيب اقترب من جسد النزيل الوحيد الذي تربطه أسلاك وأجهزة طبية تحيط بسريره. فتح الطبيب ملفا يحمل اسمه وصورته. وأشار إليه وهو يقول:
- حالتك الصحية تحسنت عن ذي قبل، لهذا سنبدأ الآن تغذيتك حتى تعيش وتمضي بقية محكوميتك.
الأمر صعب للغاية وعليك ان تحتمل.
ارتجف جسد ابو صمود وترددت صرخة في أعماقه والطبيب يباشر عمله. ما كان يخشاه في اسوأ كوابيسه يحصل الآن وهو في اضعف حالاته، لم يقتله الأسر او الماء والملح او الغاز ولكن سخرية القدر قد ترخي جدائلها وتقضي على ابسط حاجاته من الغذاء الذي سيتناوله قسريا والذي سيقتله حتما.
للواقع .. للنضال ..للألم الذي يتكبده الأبطال .. لهذا السرد الرائع
بكل تفاصيله التي وضعتنا في قلب الأحداث
أثبت النص ليأخذ حقه من القراءة
مع تحياتي والمزيد من التقدير والاحترام
سرد رائع جعلني أعيش المشهد
أعرف أنني أبالغ بقولي أعيش الحدث لان ما عاشه الاسري يفوق الواقع والتصور
ولكن حرفك كان بالفعل كامرا صوّرت المأساة بصدق فتعاطفنا مع الاسرى وخاصة أبو الصمود والذي كان رمزا لكل بطل رأى النضال قضية بلا حدود
كل التقدير