من أكون بعد كل هذا؟ كل شيء إلا جمانة. الحياة بكاملها ترمي بي كالنرد على رقعة شطرنج، وأنتَ كعادتكَ أعتدت على متابعة أصابعها وهي تتقمص دور اللاعب وخصمهِ، في محاولة عقيمة لقتل وقتكَ. كيف أقنعك بأن هذه الأدوار لا تشبه ملامحي، وان تمسك بها، لا يعني أنني لن أقتل جمانة فيك؟!. أمنحني فرصة حتى أعيش بقية أيامي حرة. فالصمت ملأ حقائبي بتعابير خرساء تجوب أرجاء المعاني، بحثا عمن يواسيها. هل تدري يا سيدي ما معنى الخرس في مدنكَ؟! أن تحتفظ بالكلمات في حنجرتكَ، تخاف من انطلاقها، وتخاف من تمددها كجسد ميت، يأتيه الضوء والصوت متقطع، ومن حولك يرتدون السواد حداداً، وكل شيء يبدو منطفئاً غاية في الاشتعال. واليوم؟ لا أدري بالضبط أرى فقط، لحظاته تمر بتقليدية، وكأنها تستعد للاحتضار في جوف المجهول، أرى ظلكَ وهي تجرجره معها، تتصيد مشاهد من ذكرياته، أرى ضوء النهار يتباعد عن خلفية الأماني، كل شيء في هذا اليوم يوصلني إلى الصمت العنيف. ما زال فنجان قهوتي الذي شربت منه جرعات عزلتي في مكانه حيث وضعته لي عندما قابلتك آخر مرة، ومنديلك الذي نسيته أيضا، تمدد بالقرب منه وكأنه وثيقة حددت نهاية المطاف. وأنا لا اعرف بالضبط أية لحظة ابتدأنا بها. أقترب منه. لأول مرة لا أشعر بالخوف. وكالعادة توشي برودته بأنني امرأة من الخيال، تلك المرأة التي تحاول أن تخفيها بداخلك بقوة، حتى لا يرى ظلها غيرك، وساعتها يتلوى صداها نحو الغياب. أتحسس برودة منديلكَ، رجفة إصبعك وهو يعتصره، عبثك وأنتَ تخنقه ساعة غضبكَ وهدوءك، رنين اللحظات الأخيرة وحدودها في فضائي، هل كان يعلم أنني سأحتفظ بمنديله في مكانه، هل كان سيدرك معنى أن أنتظر دائماً خلفه؟ هل تخيل يوماً أني استيقظ كل ليلة لأتحول إلى عصفورة تائهة تحوم في فضاءه، رهينة الصدفة، وعندما لا تجد عشها، تنزلق خلف نافذة عتيقة، تتكوم من برودة الجو؟ يكفيني صمتكَ الذي يسرق حياتي بكف ليس لها ذراع. لم أكن أعرف درجة جنوني بكَ، ولكني أدرك أنه جنون، ولهذا عندما أراك أشعر بالصدمات الكهربائية التي تهيأت لصعقي، علني أعود من الجنون. والآن أهيأ نفسي لافتقاد الصمت، كمقاتل يخبئ جسده بكومة قش. لكني عندما نظرت إلى وجهي في المرآة، أحسست بمدى العراء الذي يحيطني، دون أن أدرك عنف وجودك في حياتي. عدت وقلبت فنجاني، أخر ما ورثته من لحظاتكَ وأنت معي، كانت تفوح منه رائحة غريبة يصعب علي تحديدها، تشبه حياتكَ معي وموتي فيها، ما تزال بصماتي مستلقية على صحن فنجاني بتعب يوقف الزمن أمامي، وهو ينتظر ظلال الملامح الممزقة تسير من أمام أرصفته، ينقض على الذكريات خوفاً من هربها، ويرفض أن يمنحها الحرية . السكر في قعر الفنجان كان متطرفاً، رغم أن الوقت روضه للسكون والانصياع لرغباته المتحجرة، مالت بعض ذراته تستعد للهرب أو الموت، أضنها تمردت وحاول بدوره اختراقها، لتدور معركة ضبابية بينهما، نامت منذ زمن في قعر فنجاني، بعدها ماتت ذرة السكر الهاربة على جدار الفنجان، ماتت من عمق الألم الذي في قلبي. ومن يومها استعدت جميع قطع السكر في قعر فنجاني للتخلي عن الحياة، كان هذا رهانها الأخير، لأن الوقت قادها إلى الهلاك.
التوقيع
لِيتمرد لَون الكُحل ..
كَم يُشبهني هَذا اللون هَذهِ الأَيّام
الشاعرة والقاصة المبدعة ابتهال بليبل
محبتي
نص جميل بلغة سردية متقنة وقد اجدت ِ الحبكة
والحوار الداخلي ..لقد تعاضدت عدة عوامل لانتاج هذا النص العذب
في مقدمتها اللغة الشعرية العذبة
شكرا لك ِ لقد امتعنا النص
سرد يزداد عذوبة كلما أوغلنا في قراءته
عندما نقرأ لشاعرة مميزة نص سردي لا بد أن نكون جاهزين لرحلة من المتعة الفريدة
متألقة أستاذتي العزيزة في كل الميادين
تحياتي ومودتي