ولادة العهد القديم:
لم يقلقه تأخر هطول المطر بقدر ما أقلقته الانتفاخات التي انتشرت على سيقـــــان
الأشجار وجذوع النخيل‘ظنها في بادئ الأمر تكورات لخلايا سرطانية،لكنه حين حاول قلعها غاصت أصابعه وسط ألياف لحمية مشبعة بالدماء،وسرعان ما تصاعد بدواخله التقزز ليتركه يتقيأ الحروب والأشلاء والدماء التي تسببت بعزلته هذه،وحالما أحس ببعض الراحة هم بخلعها الواحدة تلو الأخرى،وما أن انتهى من ذلك حتى أبصرها تتدحرج نحو مكان واحد،تتجمع فيه ككريات الزئبق لتكون كتلة واحدة كبيرة،شعر بغليان الدم في شرايينه، فهرول نحو الكرة وعيناه تقدح شررا أعماه عن التنبه للأرض التي غصت هي الأخرى بعشرات الانتفاخات،حالما تنبه لوجودها صرخ بحرقة وراح يرفس الأرض بفأسه محاولا اقتلاع تلك اللحوم الغريبة،عبثا كان يفعل ذلك فقد كانت تتملص من ضربات الفأس بعد أن تنشطر وتتقسم لكريات صغيرة سرعان ما تتدحرج متموجة لتتمازج مع بقية الكرات،كان متأكدا من أن شيئا ما سيحدث،لذلك توقف منهك القوى يحدق لاهثا إلى ما ستنتهي إليه حالة التزاوج هذه،وسرعان ما اجتاحت جلده قشعريرة رعب باردة بعد أن تكونت أمامه ثلاثة أجساد عارية واهنة،كان شيء من الفرح القلق ينبض بداخله،ربما لأنه كان يحلم بذرية تعوضه عن أبنائه المنقرضين،اقترب بتوجس فاكتشف أنهم ذكران و أنثى،ارتاح من منظرهم المسالم،حاول التحدث إليهم،لكنه لم يتلقى غير إيماءات مبهمة عجز عن حل لغزها فظن أنهم يعانون من البرد والجوع،أسرع في نشر ورق الأشجار والزهور فوق أجسامهم وأطعمهم من ثمار بستانه وانتظر،عسى أن يتوصل معهم إلى ألفة قد يناديهم بعدها بـ يا أبنائي.
*
تحويله مؤقتة:
ولأني كذلك فقد مضى عني الجميع دون أن يمنحوا كلماتي أدنى انتباه،فمنذ الأزل وأنا اصرخ من وسط عوالمي اللاناطقة في الكون الخاطئ عسى أن تتحول المسامع المتخمة لغوا إلى صراخي الأبكم ولو...مؤقتا،ماذا افعل وهذا الزمان يسير على فضائل الأخطاء؟ ماذا افعل وقد ولدت لأكون تحويله مؤقتة تجنب الجميع السير في دروب المهاوي ولكن الجميع يتركوني،ربما لأنهم يخافون نعوت الجبن ويحثون الخطى نحو طريق الخطيئة ضانين بأنها ستوصلهم إلى قمم الخلود...؟هذا ما دفع ذلك الغبي لفعل كل هذه الأشياء،ربما لان كثرة الحروب الكونية التي التهمت ذريته وتركته وحيدا وعاجزا مع زوجته العجوز،أنا امنحه العذر لأنه متحمس لنشر خلفاء له على هذه الأرض يرثون منه سر منح الخصوبة للأشياء،ولكنه لا يعلم باني ورغم عدم مقدرتي على النطق اقدر أن أميز بين ما هو خبيث أو حميد فقد كنت ولم أزل وليدة الأرض الأولى،الأرض التي يعلم الجميع بأنها تمجد الخضرة وتمنح الجميع الماء والأملاح،هذا ما يعرفه من تزاوج مع الأرض روحيا،ولكن تزاوجي بالأرض كان وما يزال روحيا وجسديا من خلال جذوري الممتدة في أحشائها،وهذا ما جعلني امتص مع المياه والأملاح أشياء ابغضها ووحدي كنت أدرك ما تسببه لي مثل هذه الأشياء،مع كل آلامي بقيت منتصبة كي امثل الولادة الأولى للأرض أو ذروة شموخ انبساطها ،بقيت على هذا الحال لا يتحسس أوجاعي أحد لأني لا املك غير الموت كطريقة إيصال وحيدة اظهر من خلالها آرائي وثوراتي واحتجاجاتي،رغم ذلك اتهمني الجميع بمسببة الخطيئة الأولى وغضوا النظر عن أمي التي تعرف واعرف جيدا بأنها مستودع الأخطاء الأزلي،فأنا ممتدة بداخلها ولا املك رفض ما تمدني به من غذاء،شهي كان أم رديء،مضر أو مفيد،وذلك ما جعلها تتمادى في الخطيئة وتبث بداخلي إفرازات أدت إلى ظهور تلك التكورات البغيضة التي لم تؤد إلى نشر البشاعة على قوامي فقط بل صارت تتغذى على مياهي وأملاحي ولا احصل منها إلا على الآلام الممزوجة بالسموم بعكس جميع السرطانات التي كنت أصاب بها،هذه الأشياء كانت تسحبني بهدوء نحو الجفاف الذي جعلني أفكر بتقديم آخر تضحياتي البكماء،كان ذلك حين امتنعت عن الطعام والماء عسى أن يدب بألياف الوهن فأموت وتموت معي تلك السرطانات البغيضة،لكن ذلك الأحمق حررها من قبضتي ومنحها دون أن يعلم حق التزاوج مع سرطانات الأرض الأخرى،والآن وبعد فوات الأوان أجده فرحا لما آلت إليه عملية التلاقح تلك،ورغم أعماله البغيضة لازلت اصرخ محاولة تحذيره عما سوف يحدث،فقد قلت مرارا باني وحدي أتمدد بين أخطاء كثيرة تتوسط جوف الأرض،منها القديمة التي وقعت رغم تحذيري،ومنها الجديدة التي سوف تقع إذا ما توصلت بذور الشيطان إلى سر قوتها،فأنا وحدي اعلم إن للأرض ضرعا بحليب اسود موعود لأجنة الولادات السرطانية التي إذا ما تذوقته يفنى الجميع دون أمل بولادة الخضرة مرة أخرى،ولكني كما قلت:بكماء،أو تحويله مؤقتة وسط درب لا يسير عليه إلا الباحث عن الهلاك.
*
ولادة العهد الجديد:
إلى أن جاء اليوم الحالك بلونه وأحداثه لم اخبر أحدا عن مولد أبنائي الثلاثة حتى زوجتي التي انهرها كلما سألتني عن سبب كثرة الطعام الذي آخذه معي دوما إلى البستان،ماذا افعل؟ ااترك أبنائي الذين افتقدت نشوة حضورهم بعد أن أتت الحروب على جميع أسلافهم...؟ ااتركهم للجوع والبرد الذي جعلهم غير قادرين على الحركة ولا حتى الكلام ؟وما أعجب له هو عدم قدرتهم على ذلك رغم إطعامهم الجيد،أنا مواظب على ذلك زمن بعيد،مواظب إلى اليوم الذي صحوت فيه على صوت زوجتي وهي تحاول أن تخبرني بكلماتها اللاهثة عن فساد البيض بعد أن وجدت مح جميع البيض المعد للقلي قد صار سائلا اسود مخضر،في حينها لعنت الجميع وقررت أن اذهب بالخبز فقط عسى أن اشتري من السوق بعض الطعام،لكن هطول المطر بلونه الغريب جعلني اشعر بمقدم فأل سيء،وهذا ما جعلني أسرع بالذهاب إلى البستان لكي اطمأن على أبنائي المساكين،وحالما وصلت هناك وجدت أمامي الكارثة قد وقعت،فقد غادر العجز أجساد أبنائي بعد أن انفلقت من الأرض نافورات من ذلك السائل اللعين واخذ اثنان من أبنائي يرقصان عاريين تحت حبيبات المطر السود،شعرت بلساني وقد أربكه شلل ما جعلني غير قادر على الصراخ،اقتربت بحذر فخارت قواي حين رأيت ثالثهم مجندلا على الأرض غارقا بدمه،وعرفت من الأناشيد التي كانت تتقاذفها أفواههم الثملة بان احدهم فاز بالأنثى بعد أن قتل أخاه،صار يرقص معها حول جثة القتيل،يتقلبان على الزرع،يتضاجعان على الأشجار يتقافزان،حتى رأيت الأشجار تتهاوى من وقع دبكات أقدامهم،وكلما وهنت قواهم يسارعان بالشرب من ذلك السائل فتتأجج فيهم روح العدائية ويهمون بقتل كل ما أحييته بجهدي،ومن خلال زجاج الدمع وجدت تزاوجا بين هذه الحرب وسابقاتها وان هذين كأسلافهم،غير جديرين بالحياة،كففت دموعي وكتمت النحيب المتصاعد بداخلي،تناولت فأسي وقررت أن أهشم رأسيهما عسا أن أنقذ بذلك أمنا الأرض وابقي وحيدا معها أتطلع لولادة أخرى،ولكنها الأرض ألقتني وسط مهاوي اليأس واللاحياة،جعلتني القي الفأس جانبا واجثوا على ركبتي مراقبا تحولها إلى ضرع كبير ينضح حليبا اسود،عند ذلك عرفت حجم سذاجتي وانكساري،جلست أفكر بمن يستحق الإنقاذ إذا ما أردت النهوض مرة أخرى،أنا...مانح الخصب للأرض ومربي بذور الشيطان؟الشجرة...التي منعت بصمتها فضح أسرار الوجود؟أم الأرض التي احتضنت مع البذور سوائلا تمجد ذروة الاحتراق ولذة الحروب؟من يستحق الإنقاذ والجميع منغمسون في الخطيئة العظمى...؟
الأستاذ مشتاق عبد الهادي
هذه الولادات تنتظر ناقدا كبيرا يغوص في أعماقها ليس لأنها عصية على الفهم
وإنما
ليخرج لنا بدراسة نقدية تفيها حقها
أنت كاتب مميز
أتمنى لك مزيدا من الابداع والتألق
تقديري