أشرق الصبح ولملم نورُه بقايا ليل طويل كان جاثما على صدرها في هدوء صاخب..
لم تكن تعرف لها أنيسا عبر سكون ذلك الحقل المهجور سوى عواء الذئاب قبل أن تطرق بابها ''سلمى " تلك الفتاة الربيعية الملامح لتبدد وحدتها ، وتزرع شمسا
نقية بكبد سمائها التي لبدتها غيوم الحسرة والأسى..
لم يكن يشغلها شيء بالوجود سوى بسمة الفتاة التي راحت تشب وتكبر أمام ناظريها دون أن تعرف لها أصلا.. ولا عنوانا سوى قلادة غريبة المظهر قد طوقت جيدها الناعم ..
وها هي الأيام تنثر عقدها - بألوانه المختلفة - عبر هدوء حقلها المنزوي بأطراف المدينة ليعتري العجوز الصامدة – صمود شجر السنديان في وجه أعاصير الشتاء- فزعٌ غريبٌ
أوهن جسدها المثقل بالأرزاء ..ليبدو لها وجه ''سلمى ''كالمرفأ البلوري الذي تستمد منه قوتها وإقبالها على الحياة .. بعد ما عبثت بها السنين ،ومزقت
ورد أحلامها كفُّ الليالي لتصحو بين ليلة وضحاها وهي لا تعلم أين المفر من جرح رسمه حب الوطن خارطة على جبين كل أبيٍّ ما انحنتْ هامتُه
ليبقى ثابت الخطى صوب دروبٍ كلما تعرجت ازداد إصرارُه على المضي قدما نحو أمل ما ذبلتْ أوراقه يوما ،رغم تعاقب سنوات الجمر والعذاب..
فكم كان صوتُها المتهدج يتردد بين زفرات وآهات :ترى لمن سأوْدِع سري هذا ..؟
ألهذه الفتاة التي لا أعرف عنها شيئا ..؟
أم لجدران كوخي البائس لتنطبق عليه انطباق جوانحي الجرداء التي أعياها حمل مواجعي..؟
كان سؤالها المكتوم كصرخة راعفة - ينفثها صدرها المُعنّى بين الفينة والأخرى علها تستكين حينا أو بعض حين ،وتعيد بعض الطمأنينة والهدوء
لذلك القلب الذي أدْمتْ نبضاتَه سياطُ الوجع - ثم ما يلبث أن يستقيم سهما بين خلجات روحها مذ أثقلتها متاهاتُ الأيام ، وغزاها هول
المشيب، وهي لا تدري من أين تبدأ .. وإلى أين تمضي بعمر محمول على حد الردى ..إذ ما يكاد الظلام يطبق جفونه على هدوء حقلها الموحش حتى
يعتريها إحساسٌ غريبٌ بأنها لن تضاحك الصباح التالي ، ولن تغازل خرير النهر الذي كم استأنستْ به من وحشة القلب ..وغربة الروح..
كانت تود لو دفنتْ ذلك الإحساس كما دفنتْ أشياء كثيرة ما عاد لها مرفأ بالوجود ..حتى لا تجتر تفاصيل حلمها المزعج الذي كان يراودها بين
ليلة وأخرى ؛ليكتم أنفاسها ويجعلها تستحضر كل ما طوته يد الغدر منذ عهد خلا..
وذات أنين ..كان المساء هادئا ،والشمس موغلة في الغياب ،والغمائم تتشابك خيوطها متكدرة.. لتقطف ما تبقى من شتلات النور عبر الأفق ..
كانت العجوز واجمة تعد طعنات الأيام بصمت مرير ..وقد أعياها شريطُ ما مضى لتهمّ بالوقوف رأفة بنظرات ''سلمى'' المتسائلة في سكون ..
غير أنها ما لبثت أن استقامت مرتجفة وهي تبحث لها عن جدار صلب تتكئ عليه إثر سماع وقع أقدام غريبة بددتْ سكون الجوار..
وبحركة لا إرادية فتحت منفذا صغيرا بإحدى زوايا الكوخ وزجت ''بسلمى'' داخل قبو مكفهر ..ثم غطت فتحته ببقايا أفرشة بالية ،وقطعة صوف يتوسطها
مغزل كم برته مُدى الأيام ..ليبدو كمسن لفظته كنانةٌ أحرقتها نار الحيرة والضياع..
وبعينين جاحظتين راحت تتفقد المكان يمينا وشمالا.. لتستقر عيناها على رجل ضخم يحمل مصباحا باهتا بيد ، وبأخرى راح يجر شابا من عنقه ..
وما أن طرحه أرضا حتى اتخذ من وجهه مداسا لقدمه القذرة وهو يصرخ :''..
أمتأكدٌ بأنك رأيتها هنا''..؟
ويجيب الشاب وقد أخذ الإعياء منه مأخذا وهو يتمدد على النجيل خائفا مرتبكا :
"نعم يا سيدي إنها هنا دون أدنى شك .."
وبسرعة وإصرار دفع الرجل الضخم باب الكوخ متباهيا بصوته الأجش:
'' هيا اخرجي لقد انتهى كل شيء الآن''
فتحت العجوز بابها وخرجت متثاقلة الخطى وقد بدد جلدُها ماكانت ضخامته خليقة بأن تبعثه في النفس من رهبة..لتسأله قائلة :..
من أنت..وماخطبك..؟
تقدم نحوها وهو يحدق في تقاطيع وجهها المتعب بازدراء.. لقد انتهت اللعبة الآن ..
هيا اخرجيها لأعود بها من حيث أتتْ..
صمتت لحظة ثم قالت :..لكنك لم تفصح عن بغيتك ..
إني هنا وحدي في هذا الحقل المقفر..ولا أنيس لي سوى صمت الخواء ، وخرير هذا النهر الذي بدأ يغزوه المشيب مثلي.. !
وماكادتْ تكمل حديثها حتى لعقت قطرات دم ساخنة تصببتْ من جبينها المتجعد إثر ضربة فاجأها بها وهو يهدد ..ويتوعد:..
ستموتين الآن ..وبهذا التراب سوف أدفنك كما دفنت ابنك ذات شتاء..
تجمدت في مكانها وهي تتفرس ملامحه المتجهمة التي باحت بخبايا قلبه المتحجر ..وما لبثت أن استدارت يمينا حيث يرقد ابنها الوحيد ، لم تكن تريد أن
تسقط على الأرض رغم تلك الغشاوة التي أثقلتْ مقلتيها ،وحلقتْ بها بعيدا عن ذلك العالم الموبوء ..وبإصرار كبير هرولتْ نحو الكوخ ، ودون أن تدري
حملتْ بيدها الوجلة بندقية كانت قد أخفتها وسط كومة القش ..وصوبتها نحوه وهي تردد:..
وصبرتُ تنحرني المواجعُ لا أرى
إلاي خطـــــــوا بين جمرةِ غربتينْ
فيصـيحُ صــوتي من تباريحِ الضنى
لا تطفــــــــئوا نورَ المـدامع مــــــــــــــــرتينْ
وما كادت تنتبه حتى وجدته صريعا يستحم بفيض دمائه ..
فانكبّتْ على الأرض تبكي في لهفة الأم الثكلى
كل البحار ركبــتها رغم الضـــــــــــــــــــــــنى
لا ما انحنيتُ برغــم كأس العلقمِ
ثوب المفاخر بالمـــواجع صـــــــــــــــغتُه
درا نضيدا من ســمـاحة مبسمي
ولقد مضيتُ على العهود جحافلا
وحدي ارتقيتُ بذي المتاهة سُلّمي
وغدا أعيد لذي الرواسيَ ظبيَها
حــــرا طليقا رغم ليـــــــــــــــــــــــــلي المظلمِ
مهما انحنى زرعُ الحقول على الربى
فغــــــــــــدا ضفائره توشوشُ مِـــــــــــــــبرمي
ثم عادت إلى الكوخ وهي تلهث خوفا على "سلمى " التي نسيتها تماما في جنح الدجى ..وما كادت تفتح القبو حتى ارتمت
تلك الفتاة البريئة بين أحضانها متسائلة في حيرة وارتباك:..
ما هذا الصوت يا خالة ..حدثيني بمَ يجري لقد تعبت من وخز الجراح ولا صباح يلوح بهذه القفار الجرداء..؟
ودون اكتراث لسؤالها ردت العجوز:..هيا اسرعي وساعديني على حمل هذه القذارة لنواريها جوف الأرض ..فلولا هيبة الموت لدستُ هذا الوجه الوقح بقدمي..
لكن حسبي الله ونعم الوكيل..
زفرتْ هذه العبارات ثم لبست ثوب صمتها ووجومها كالعادة ..لتسافر عبر أمواج شرودها الهادرة متسائلة في قرارة نفسها :
ترى هل ستنجلي هذه الغيوم يوما لتهب نسائم السلام وتغازل سعفَ النخيل ..وتناغي جدائل السنابل المنحنية قسرا لترفع رأسها في شموخ واباء..
وتطوي عنها ما جرعتها إياه هذه السنين العجاف..؟
وما هي إلا هنيهة حتى انتشلتها "سلمى" من عمق تفكيرها وهي تصرخ :..
إنه زوج أمي يا خالة وهو من قتلها ذات غدر.. فمن الذي دله على مكاني ..يا إلهي ماذا كان سيفعل بي لو لم تكوني معي ..؟؟
ضمتْها العجوز إلى صدرها محاولةً أن تهدئ من روعها ..ثم انفلتتْ منها نظرةٌ إلى ذلك الشاب الذي مازال جاثما على الأرض يتقطر حياء...
وقد تقدم نحوها محاولا تقبيل الأرض التي تمشي عليها :
سامحيني يا خالة ..إنني مغلوب على أمري لقد أحرقوا محصول أرضنا كله ، وهددوني بذبح أمي وإخوتي الصغار أمام عيني..
وضعت يدها على رأسه في حنو الأم الدافئ وهي تبتسم مجهَدة : ..
لا بأس عليك يا بني ..هيا ساعدنا في دفن هذه الحثالة ثم عد إلى بيتك ..فالليل لا يؤتمن جانبه ..
ووالدتك دون شك لن تستسلم للنوم إن لم تناغيك مقلتاها ..
ابتسم الشابُ بسمة اطمئنان وهو يتقدم مسرعا كي يحفر قبرا لذلك الغريب بعيدا عن الحقل ؛ والعجوز تتأسف على أن مثله سيكون قريبا من قبل ولدها ، وأنيس روحها ، وقرة عينها ..
غير أنه ما باليد حيلة .. فهون الشاب عليها مصابها وهو يقبل يدها عرفانا بالجميل لينطلق مسرعا..وما هي إلا لحظات حتى اختفى في بين الأشجار الباسقة
وماكاد النهار ينتصف حتى همّت "سلمى" بسؤالها مستغربة : ..
ما ذلك العتاد المركون بالقبو يا خالة ..ولمن هو..؟
صمتت العجوز قليلا ..في لحظة كان الصمت فيها أقوى من أي لفظ قد تدحرجه الشفاه ..وبعد تفكير طويل أدركت أنه لا مفر من إخبارها بالحقيقة كاملة ..
فالتكتم لم يعد أبدا لصالحها ..مادامت الأيام تمضي ويغفو معها فتيل العمر الذي راح ينطفئ رويدا..رويدا ..
ثم عادت مثقلة الخطى إلى ردهة كوخها الطيني ..وقد أخذ الإعياء منها مأخذا ..وانتشتلها أمواجُ التفكير الصاخبة من هذا العالم ..
ليعيدها صوتُ "سلمى" وهي تتساءل من جديد :
هل زال الخطر الآن يا خالة ..؟
حدقتْ في وجهها قليلا – وقد صفعها خوفٌ كاد ينشق له صدرها النحيف - ثم ضغطت على كتفيها بيدين مرتجفتين : ..
الآن فقط يمكنني أن أحدثك بكل شيء لم يعد في العمر بقية يا ابنتي ..وانتصارنا الليلة على واحد من أعداء الوطن لا يعني الانتصار دائما ..
فقد نهوي من فرط الجراح ..ويهوي معنا كل شيء..
زفرت كلماتها هذه بألم شديد ثم ألقتْ برأسها المثقل بالأرزاء على رحىً قديمة كانت موضوعة في زاوية من زوايا الكوخ ، واستسلمتْ لنوم عميق
كانت تشعر دائما بأنها في أمس الحاجه إليه حتى يرمم ما ترك لها الزمن من بقايا جسد واهن ملّ النوائبَ ،وسئمَ الصراع بين جذور الأمس
العاتية الصلبة الصامدة ، وزهور اليوم التي ستبقى تذروها الرياح أنّى تشاء..
******
وانبلج الصبح لترسل الشمس خيوطها الذهبية مغازلةً وجه المروج وهي ترتشف قطرات الجمان
ــــــــ في نهم ــــــــ من على الزهر البري الذي تناثر هنا وهناك ..وراحت نسماتٌ ربيعية باردة تعبث بباب الكوخ الحزين لتصحو "سلمى" على صريره
المزعج ،وتجد نفسها ملقاة بجانب العجوز التي ضمتها إلى صدرها ،وكأنها تفر من أمسها الشاحب إلى الغد الحالم الذي كانت ترى أزهاره
تتبرعم مع كل فجر بين تقاطيع وجهها الطفولي البريء..
ودون تركيز منها راحت تتفرس وجه العجوز وقد تجهم وخالطت لونه صفرةٌ باهتة ..صمتت قليلا ثم راحت تناديها بصوت راجف : ..خالتي ..خالتي
ولكن العجوز لم تجب وقد لبست ثوب صمتها العميق لتتركها وحيدة تصارع دوامة لا مفر من الاستعار بلظاها ..ودون أن تدري انفلتت منها صرخة مدوية :..
ليس الآن يا خالة ..ليس الآن وقد وجدتك هوية وانتماءً..
لكن هيهات ..فالعجوز لن تجيبها وقد غادرت هذا الوجود في صمت العظيمات اللواتي وهبن فلذات أكبادهن قربانا لهذا الوطن الذي نسجن
وشاحه الوضاء بأنامل لا تعرف التذلل والخنوع ..
نامت وتركت وراءها ألف سؤال وسؤال يخالج ذهن "سلمى" تلك الفتاة الغضة التي لم يعد يشغلها سوى صوت العجوز وهو يتردد بمسمعها من حين لآخر :..
إياك أن تتركي أقدام الغزاة تدنّس هذا التراب النقي..
إياك أن تستسلمي للظلام وأنت شمس هذا الوطن الحالمة رغم تلبد الغيوم ..
**********
وهكذا انقضى يوم جديد من حياة الفتاة ،وطوى معه حصنا منيعا كم ظل يقيها أعاصير الفجاج المظلمات..
ودون أن تدري اتجهت إلى فتحة القبو بعينين أطفأهما فيض الدموع ،وأذبل بريقهما طول التسهّد..لم يكن فضولا منها وإنما بحثا عن حقيقة قد
خامرتها في لحظة ضياع ..وبسكون رهيب أشعلت فانوسا قديما كان معلقا بركن من أركان القبو ..وماكادت تجيل النظر بين أرجائه الموحشة حتى لمحت
صندوقا صغيرا باهت اللون يتوسط كومة من الأشياء المهملة ..
"دون شك سوف يكون منطبقا على الحقيقة أو جزءٍ منها على الأقل "
رددت هذه العبارة في قرارة نفسها ثم تقدمتْ إلى الصندوق وفتحته بكلتا يديها لتجد أوراقا.. وصورا قديمة ..تصعب رؤيتها على
نور ذلك الفانوس الذي كاد أن ينطفئ ..
فضمت كل المحتويات إلى صدرها وخرجت إلى الكوخ وراحت تقلب تلك الأوراق الرثة إلى أن وجدت مجموعة من الصور القديمة والتي
رغم تآكل أطرافها قد تعرفت ــــــــــ فيها ــــــــ على وجه والدها وهو يُجمّل بعضها حاملا بندقيته متربعا وسط كوخ العجوز التي كانت تبتسم وهي بجانبه ..
وكم اعتصرتها دهشتها وهي تقلب الصور ..واحدة فأخرى ..
غير ممكن .. !!!
رمت هذه العبارة جانبا وهي تبعثر بقايا محتويات الصندوق ..هنا وهناك ..إنه أبي ..أجل إنه هو دون أدنى شك ..وهذه نفس الصورة التي كانت تحتفظ بها أمي منذ أمد بعيد ..
لكن ما الذي يربطه بهذه العجوز..
ودون أن تدري سحبت تلك القلادة التي طوقت بها والدتُـها جيدَها ذات شتاء..وهي تقول لها : ..هنا أصلك ..ِابحثي عنه بين الجبال الشامخة لتجديه يحميك من الوحوش
التي طوقتني ..ويرقى بك سلم المجد والاباء..
وبيد مرتجفة فتحت علبة صغيرة كانت معلقة بالقلادة لتجد صورة جدتها ..إنها هي ..نعم هي أم العظماء ..كيف ترحل قبل أن تعرف من أكون ..
ولطالما تساءلت عن الأقدار التي ساقتني إليها ..؟
كيف ترحل وهي خارطتي وانتمائي..؟
وكيف سأواجه هذه الحياة الصاخبة بحمل ثقيل وضعته الأيام على كاهلي ..
وفجأة اعتراها خوفٌ غريبٌ من وحشة المكان الذي بقيت تناجي أطلاله وحيدة ..موجعة..ولا أنيس لها سوى وميض الذكريات الذي راح يشع بحقول ذاكرتها
الجرداء من حين لآخر ليعوج بها إلى أيام الصبا حيث كانت برعما بريئا لا يرى من الكون سوى جانبه الأبيض....
وضعت رأسها بين يديها وراحت تجيل النظر هنا وهناك محاولة اقتفاء أثر من عبروا البيداء بحثا عن شمس الوطن المنفية وراء البحار..
أعياها سوطُ التفكير والمصير الذي آلت إليه رغم كونها تدرك تماما بأن هذا الوطن لا يمكن أن يتصدع أو ينثني لمجرد موت جدتها ..
فهي تعلم تماما بأنه لا يهوي غصنٌ إلا لتتبرعم أغصان أخرى كامتداد له ..فما رحلت تلك السنديانة الصامدة إلا لتتركها خلفها قلبا نابضا سيحمل لواء النضال ..
لم يعد بوسعها سوى أن تتجلد بالصبر وتنتظر ماتجود به جراب الأيام من أسرار ومفاجآت ..
ولم يطل انتظارها ..فما هي إلا سويعات حتى لمحته من بعيد مهرولا نحوها في تثاقل
إنه هو ..أجل هو ..ذلك الشاب الذي رأيته تلك الليلة ..لكن ما خطبه ..؟
وماكادت تطوي وريقات سؤالها حتى بادرها قائلا :..
لقد أحضرت لك بعض الطعام تناوليه بسرعة ..لم يعد في حوزتنا الكثير من الوقت ..
ناوليني بعض العتاد ..فلم يبق سوى شرذمة من الرؤوس التي علينا بسطها أرضا هذا المساء ليتسنى لنا العيش بسلام
ودون تفكير ..أو تساؤل دلته على مكان القبو فدخله وهو يتحسر على رحيل العجوز المفاجئ ..ثم حمل ما أمكنه أن يحمل من العتاد ..
وطلب منها أن تختفي عن الأنظار فالوقت غير مناسب لظهور مثلها في مكان موحش كهذا ..
ثم تقدم رجلان معه وحملا جثمان العجوز ومضيا باتجاه إحدى منازل القرية حتى تسجّى قبل مراسيم الدفن ..
وقفت الفتاة واجمة في مكانها وهي تودعها بصوت خفيض والدمع يُغسّل وجنتيها ..ثم راحت ترمق ذلك الشاب إلى أن اختفى بين أشجار الأيك
الشاحبة شحوب وجهها الذي أعيته نائبات الدهر ..
و عادت إلى الكوخ الحزين لتضمها إحدى زواياه و هي جالسة ًعلى حصير بالية ..وقد وضعت على كتفيها الباردتين رداء جدتها
الأسود والروح تتقطع وجعا مترقبة ما ستبوح به ثنايا المجهول المطلق..
********
وتمضي دقات الزمن عابثة بقلبها الأبكم لتعتصره حتى الموت ..لكنه ما يلبث أن يتجلد بقليل من الصبر وكثير من الحكمة ليردد بعض الآيات القرآنية
يبدد بها وساوس الشيطان..
كانت الساعات تتدحرج من خابية الزمن ثقيلة ..ثقل قضيتها .. موجعة وجع جرحها الغائر بين الضلوع .. مرة مرارة العلقم الذي ترشفته وهي في عز الصبا ..
ولم تشعر إلا وهي بين أحضان غفوة استرقتها من هول الظلام إلى نوم عميق ..حيث ربيع الأحلام الوردية الذي أعاد بعض الراحة والطمأنينة إلى جسدها الواهن
لتصحو على صوت لكم حلمت به أنيسا مذ أن غربتها ريح الأقدار بين هذه الجبال ..إنه صوت حماة هذا الوطن وهو يردد :..
وطني المعــــــــــــــــــــــــــــــــطرُ كالأزاهر من دمي
يجلـــــــــــــــــــــــــــــــو ضياءً لا يزفه مـــــــــــــــــــــــوعدُ
يا مــــــــــــــــــــــــوئل الأطهار إن حمّ الردى
ونمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــير غيثٍ بالوفا يتجددُ
قد غيبـــــــــــــــــــــــــــــــــــتك يدُ المواجع قبلةً
من نبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــض قلبي نبعُها يتزودُ
رغم العواصـــــــــــــــــــــــفِ قد سموتَ محَلِّقا
ما شقَّ دربَك بالغيــــــــــــــــــــــاهب فــــــــــــــــرقدُ
كم طفـــــــــــــــــــــــتَ نورا بالغيوبِ مسافرا
وسنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاب لا حـــــــــــــباتُها تتمرّدُ
مــــــــن غــــــــــــــمرةِ الأحزان تبعثُ واثقا
بين الهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــواجر سَلسلا يتأوّدُ
إني نثـــــــــــــــــرتك بالصروف ملاحما
صوب العــــــــــــــــدى صرخاتُها تتوقدُ
سابقـــــــــــــتُ أسرابَ الغمائم خطوةً
ليظل نجمُك في الخطوب يزغردُ
فـــــــــــــــــــــــــإلى متى تلك البلابلُ بالفلا
صمـــــــــتا على جمر التشوق تُجلدُ
ستــــــــــــــــــــــــــــــعود للورد المسيج أنهرا
وربيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ع عزٍّ بالمنى يتوردُ
ما زلــــــــتَ رغم الغـــــــدر أيكا باسقا
وحمام عز للــــــــــــــــــــــــــــــــــــــسلام يُغرّدُ