كنت أكذب أحيانا وأدعي المرض أحيانا أخرى ، لالشىء سوى أن أستدر عطف أمي .
كثيرا ماعانيت من إحساس لم أدرك مغزاه في تلك المرحلة المبكرة من عمري .
كنت في العاشرة وتسلسلي بين إخوتي يقع ماقبل الأخير، ربما حظيت بمحبة الجميع ، لكن .. ليس بالقدر الذي ناله أخي الأصغر ، كونه آخر العنقود .
من المؤكد أن كثرة عددنا قد أرهقت أمي ووضعتها في حرج ، لأن إقامة موازنة عادلة ترضي الجميع شىء صعب وربما مستحيل ، كما أن توزيع الوقت على عشرة أبناء من كلا الجنسين أمر ليس بالهين أو اليسير .
مازالت صورتها محفورة في ذاكرتي ، تلك المرأة الطيبة المتفانية ، لم تكن حياتها على مدار الساعة سوى عمل دؤوب ، حتى في الليل ، وحين يخلد الجميع إلى النوم ، أسمع صوت احتكاك الفرشاة بأرضية البيت .
أتسلل .. أختبئ .. أرقبها دون أن تراني ، فأجدها تعمل بنشاط ، ولا ترقد قبل أن تترك البيت في أبهى صورة ، يستعد لاستقبال يوم جديد .
في تلك الفترة من عمري ، وفي الأعوام التي سبقتها ، كنت شديدة الولع بها ، حتى أنني كنت أمقت المدرسة ، لأن الساعات التي أقضيها هناك تحول بيني وبينها .
لذلك وضعت جل اهتمامي في كيفية استقطابها نحوي ، ونيل القسط الأكبر من الحب والدفء والحنان ، فادعيت المرض ، وبتكرار إدعاءاتي ، صرت أشعر بآلام حقيقية ، وكثيرا ماشعرت بوخز الضمير ، وأنا أراها تلهث متنقلة بين معامل التحليلات ومراكز الأشعة ، لكن رغبتي في الإستحواذ عليها تبرر لي أفعالي ، فأعرض عن التفكير في أي شىء دون تلك الرغبة الجامحة في امتلاك هذه المرأة التي تمثل لي العالم بأسره .
بطلت إدعاءاتي حين اطلع الطبيب على الأشعة والتقارير ، فرحت أمي لسلامتي من الأمراض التي كنت أدعيها ،ولا أدري إن كانت قد اكتشفت أكاذيبي أم أنها لم تسئ
الظن بي من الأساس ، أما أنا فقد شعرت بالهزيمة ، ثم رحت أبتكر طرقا جديدة ، ولم أترفع عن القيام ببعض الأفعال الصغيرة لألفت الانتباه .
فتارة أترك العلكة في فمي أثناء النوم ، دافعة نصفها إلى الخارج ، وأخرى أعض على السندويتش الليلي ، ثم أغمض عيني ، حين ألمح قدومها ، ولشدما أشعر بالإبتهاج حين أسمعها تشهق مرددة " بسم الله الرحمن الرحيم " وهي تنتزع من فمي العلكة أو السندويتش ، فأنام لأحلم بفكرة جديدة .
صحوت ذات صباح على همسات تدور بين إخوتي ، شعرت بنظراتهم تلسعني ، قال لي أحدهم وهو يرمقني بنظرة ساخرة :
ـــ ألا تخجلين مما تفعلين ؟
ـــ ماذا فعلت ؟
ـــ تسيرين وأنت نائمة .. تتحدثين بكلمات غير مفهومة ، أول أمس كنت تتأبطين نعليك والبارحة تحملين الوسادة فوق رأسك ، لقد صرت أضحوكة، فكفي عما تفعلين.
لم أعلق على شىء ، ورحت ألجأ إلى النوم متحاشية بذلك عيون إخوتي المتسائلة المستنكرة .
وفي ليلة من ليالي الصيف ، صعدت إلى سطح الدار في حدود الساعة الثامنة مساء.. مددت بصري إلى الأسطح المجاورة ، حيث الأسرة البيضاء والأغطية الملونة ، ثم تسللت إلى فراشي ، كان باردا يغري بالنوم ، تطلعت إلى الفضاء الرحب ورحت أفكر في وسيلة أستعيد بها لهفة أمي من جديد .
بعد مرور ساعات نزلت إليهم .. دخلت إلى غرفة المعيشة ، كان الجميع يتابعون مادة السهرة التي يعرضها التليفزيون .
قلت بتعجب :
ـــ أنتم هنا .. حسبتكم تبحثون عني ؟!
إلتفت الجميع نحوي ، قال أخي الأكبر :
ـــ نبحث عنك ؟ أين كنت ؟!
ـــ هناك .
ـــ هناك أين ؟ تكلمي .
ـــ في الخرابة .
ـــ أية خرابة ؟
ـــ تلك التي تقع لصق بيتنا.. أعني ذلك البيت الذي انهار منذ عامين إثر عاصفة عنيفة.
تبادل الجميع النظرات والابتسامات .. شعرت بالحرج جاءني صوت أمي دافئا .
ـــ ألم تكوني نائمة ؟
ـــ بلى .. لكنني سقطت في ذلك البيت .
ثم رحت أسرد الحكاية .
كنت نائمة بالفعل ، لكنني فزعت حين ارتطم جسدي بالأرض ، يبدو أنني تسلقت الجدار وأنا نائمة فسقطت .
كان الظلام يهيمن على المكان وقطع الزجاج تفترش الأرض ، حتى أنني شعرت بشظاياه تنغرز في جلدي .
نهضت .. بحثت عن مخرج ، لكن باب البيت كان موصدا ، لم أصرخ .. لم أخف ،ذلك لأني كنت مدركة تماما أين أنا ، ثم رحت أبحث عن وسيلة تعيدني إلى بيتي .
أجلت النظر في أرجاء المكان ، ثمة غرفة تقع لصق بيتنا ظلت صامدة .. بحثت عن سلم يوصلني إلى سطحها ، لكنني لم أجد سوى جذع نخلة يتكئ على الجدار ، تسلقته بمشقة ، ثم اعتليت الجدار الذي أوصلني إلى سطح دارنا بسلام .
وما أن أنهيت كلامي ، حتى انفجر الجميع بالضحك ، صاحت أمي ، فصمت الكل ، وصمتت هي أيضا ، ثم بدد الصمت صوت أحد إخوتي :
ـــ إنها تكذب يا أمي .. فهل من المعقول أن تسقط من ذلك الارتفاع دون أن تتحطم عظامها ؟ ألم تلاحظي كيف دخلت علينا ، إنها أحسن حالا مني .
أيده الجميع فانفجرت بالبكاء ، قلت موجهة كلامي لأمي :
ـــ أنا لا أكذب هذه المرة ، صدقيني .
اصطحبتني إلى إحدى الغرف .. أغلقت الباب فهويت على الأرض ، لقد خشيت أن تضربني ، لكنها مدت لي يدها الحانية ، ثم قالت بصوت عطوف :
ـــ انهضي ولا تخشي شيئا .
رفعت جلبابي ، كان الدم قد تجمد على سطح جلدي دون أن أشعر به ، صرختْ ، فتوافد الجميع ، قالت وهي تبكي :
ـــ إنها صادقة .. لقد سقطت بالفعل ، هذه الجروح تؤكد ذلك .
ضمدت أمي جراحي ، وصرت لا أنام إلا في أحضانها ، لكنها لم تكتف بذلك ،بل راحت تفكر في طريقة تقيد حركتي ليلا ، فاهتدت إلى وسيلة جعلت قلبي يزغرد فرحاً كل مساء ، لقد أخذت تربط قدمها بقدمي أثناء النوم .
فكان ذلك الرباط المادي الذي جعلني ألتحم بها كل ليلة ، هو الرباط الروحي الذي كثيرا ماحلمت به