سنواتٌ لم تلتق عيني وهذه الزاوية الحادة الواقفة على رأس الزقاق.
سنوات و الذكريات تدق على ضلوع القلب، كأنها الآن تعوي برأسي،
والمعاني تركض لاهثة منهكة؛ كأن يدا تسحب رأسي إلى الخلف، تشطرني
إلى نصفين، تريدني هنا وهناك، وجع قديم وفي المدى رجاء وأمنيات،
وجع الزمان والمكان.. ودفقٌ من حياة تراها العين وكأنها الآن تنتصب
للمرة الأولى على رئتيها لنفسٍ أول. خطوة أولى.
لم أعد أرى نفسي وأنا أنظر إلى يميني، مبنى البريد ما زال على حاله،
وأنا يافع يعصره الشوق.
ركضت كالمجنون نحوه. دخلت. وعلى يساري أكملت طريقي باتجاه صناديق البريد.
الموظف لم يفعل شيئا رغم غرابة ما يرى. ها هو صندوق البريد رقم (299).
نعم هو. نظرت من ثقوبه. رسائل ومغلفات مكدسة. ذلك المغلف الأزرق؛ لا بد أنه (منها).
هكذا هي مغلفات رسائلها، وهذه هي الأكياس الورقية. لا بد...
هل أستطيع مساعدتك؟ قال موظف البريد.
قلت -وأنا ابتسم -: صندوقي ممتلئ. قال: افتحه
قلت: هو ليس لي هو لصديقي وأنا أستعمله؛ هو لا يمانع ثم .. ثم ..
هل بإمكانك أن تعطيني ما بالصندوق؟ قال: لا يمكن! يجب أن يحضر صديقك بنفسه.
استدار، و همّ بالانصراف بينما كنت أقول: ولكن ..
قاطعني قائلا: يجب أن يحضر بنفسه ومعه مفتاحه. غادر، وخرجت مسرعاً.
سأذهب إلى صديقي. لكن بيته بعيد من هنا. سآخذ سيارة أجرة...
أنت لا تملك أجرتها حتى! سأذهب سيرًا على قدمي، وسأركض، سأبتلع المسافة،
وسأقطع الوقت نعم ....
كنت ألهث حين وصلت، وقلبي يكاد ينقطع من التعب.
- ما بك ؟ قال صديقي. قلت : أريد مفتاح صندوق البريد
قال: أي صندوق؟ قلت: الصندوق رقم (299) يا رجل.
نظر إلي باستغراب وهو يسكب الماء البارد. مد الكأس باتجاهي وقال:
اشرب. خذ نفساً أولا، قلت: الصندوق يكاد يختنق. هيا بسرعة يا صديقي
قال بصوت ممطوط حزين ومنخفض: ما بك؟ مر أكثر من عشرين عاماً والصندوق
ملكٌ لشخص آخر؛ أنا وأنت لم نستعمله منذ سنين. قلت: ولكن مغلفها الأزرق..
قاطعني وهو يصرخ: سلمت الصندوق منذ عشرين عاماً وهو الآن ملك شخص آخر ..
وهي رحلت .. رحلت..!
مشيت على غير هدى...
أخيراً كنت أمام صندوق صغير في بيتي، فتحته أخرجت مفتاح صندوق البريد من غفوته الطويلة
كان بجانبه مرآة صغيرة.. حملتها ونظرت فيها وابتسمت .. كم كان غريباً هذا الذي يطالعني... ولم أكن أنا..
كان (كنترول) الحافلة يصيح: آخر محطة بعد زاوية مبنى البريد!ِ
التوقيع
قبل هذا..ما كنت
أميـــز..
لأنك كنت تملأ هذا
الفراغ..صار للفراغ
حيــز.!!