أبو فراس الحمداني :
رأيت الشيب لاح فقلت أهلا = وودعتُ الغواية والشبابا ..
وما إن شبْت من كبر .. ولكن = رأيتُ من الأحبة ما أشابا
بعثن من الهموم إلى .. ركبا .. = وصيرن الصدود لها ركابا
وفي نفس الفلك يدور الشاعر علي بن المقرب العُيوني :
وما شبتًُ من سنٍّ مضت , بل أشابني = صروف الليالي والخطوب الفوادح
لعشرين لاح الشيب فيَّ , وأوجفت = علي خيول المرزئات الضوابح
***
ولكن أبا فراس الحمداني يبسط الفكرة , ويلح عليها بتصوير أبرع , وتعبير أكثر إيحاء وأقوى دلالة وتأثيرا فيقول :
ومـا زلت على العشرين سني=فـما عذر المشيب إلى عزاري
وما استمتعت من داعي التصابي=إلـى أن جـاءني داعي الوقار
أيـا شيبي ظلمتَ ! ويا وقاري=لـقـد جـاورتُ منك بشر جار
يُـرحـل كـل مـن يأوي إليه=ويـخـتـمـها بترحيل الديار
أمـرتُ بـقصّه , وكففت عنه=وقـرَّ عـلـي تحمله .. قراري
وقـلـتُ الشيب أهون ما ألاقي =مـن الـدنـيا وأيسر ما أداري
ومن أبيات البارودي التي نظمها في منفاه سرنديب , وفيها يصور بصدق ودقة البصمات والآثار السيئة التي تركها " الشيب " على جسده ونفسه وفكره :
كيف لا أندب الشباب وقد أص=بحت كهلا في محنةٍ واغتراب
أخلق الشيب جدتي وكساني=خلعة منه رثة الجلبابِ
ولوى شعر حاجبيّ على عيني=حتى أطل كالهداب
لا أرى الشيء حين يسنح إلا=كخيال كأنني في ضباب
وإذا ما دعيت صرت كأني=أسمع الصوت من وراء حجاب
كلما رمتُ نهضة أقعدتني=ونية لا تقلها أعصابي
لم تدع صولة الحوادث مني=غير أشلاء همة في ثياب
ويشبه أحد الشعراء شَعره الأسود بالمسك , وشعره الأبيض بالكافور , وهما نوعان من الطيب , ولكن حبيبته التي حاول أن يوهمها بذلك كانت أذكى منه وأقوى عارضة , وأحضر بديهة .. فلتستمع لهذا الحوار اللطيف :
قالت : أرى مِسْكةَ الشَّعر البهيم غدت = كافورة قد أحالتها يد الزمن
فقلت : " طيب بطيب . والتنقل في .. = معادن الطيب أمر غير مُمتهن "
قالت " صدقت , وما أنكرت ذاك بذا = المسك للشمِّ , والكافورُ للكفن "
***
ونلتقي بشاعر آخر أحضر بديهة من صاحبته في الحوار الموجز التالي :
قالت وقد راعها مشيبي = " كنت ابن عم فصرت عما "
فقلت مهلا , وأنت أيضا = قد كنت بنتا فصرت أُما
قال أحد الشعراء
ويوم غدت تعيرني بشيبي # وقد رأت السكينة والوقارا
وما في الشيب عند الناس عيب # إذا ما عاد ليلهم نهارا
ولكن في الشباب خزعبلات # لمن يهوى العذارى والعذارا
وقال آخر
لا يرعكِ الشيب يا ابنة عبدالــــ ( م ) ــــله فالشيب جلة ووقار
وقال أحد الشعراء
فلما رأت شيب رأسي بدا # فقالت عسى غير هذا عسى
فقلت البياض لباس السرور # وأن السواد لباس الأسى
فقالت صحيح ولكنه # قليل الرواج بسوق النسا
قال أحد الشعراء
فإن تسألوني بالنساء فإنني # بصير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله # فليس له من ودهن نصيب
وقال آخر
أراهن لا يحببن من قل ماله # ولا من رأين الشيب فيه وقوّسا