..ولما كان صاحب المال دائما يتميز بالحرص والدقة فى اختيار أمنائه ، فقد حرصت خديجة على أن تختبر محمدا ، اختبارا عمليا ، فوكلت إليه أمر التجارة ، ثم أرادت فوق هذا أن تختبره روحيا وخلقيا ، إذا ما هو بعد عن مجتمعه الذى عرف فيه بالرزانة والتعقل . وخالط مجتمعا لا يعرف فيه أحد ، ولقى فيه حريته الكاملة ، البعيدة عن الرقابة والعيون ، فأرسلت معه خادمها ميسرة ليرقبه عن كثب ، حتى إذا ما عاد ، عاد إليها بصورة كاملة عن محمد في حله وترحاله . فى سفره وإقامته . فى ممارسته للتجارة . ومعاملته للناس . فى بيعه وشرائه . فى تعرفه على كل وسط جديد يدخله ومع كل أناس يخالطهم .
..وخرجت القافلة وعلى رأسها محمد بن عبد الله ، وخديجة تتعجل الأيام لعودتها . ومعها أنباء الشاب التى تمنت أن تصدق فيه أقوال الناس ، وألا تخيب فيه فراستها وصدق حدسها .
وعادت القافلة بالربح الوفير ، والتجارة الرابحة..وأعز وأروع الأنباء التى كانت تتصورها خديجة الطيبة التى راحت تصغى إلى ميسرة ، خادمها الطيب وهو يحدثها حديث المأخوذ عما رآه من الأمين محمد طوال أمد الرحلة من مكة إلى بلاد الشام ، ومن هناك إلى مكة ..
خوارق وأعاجيب سمعتها خديجة عن محمد ، ومديح يتلوه مديح ، فالشاب العزوف عن مجتمع قريش ظل على حاله . العزوف المتباعد عن مجالى الشام ورائع سوامره التى يقبل عليها التجار فى شغف ويرتادها أصحاب القوافل فى لهفةٍ وإعجاب . أبدا ما غيرت الرحلة من محمد ولا بدّلته ظروف السفر والترحال ، بل ظل كما هو . هادئا رزينا حكيما ، صامتا لا يتكلم إلا حين يفرض عليه الموقف الكلام . فإذا تكلم كانت الكلمة الواحدة منه تزن آلاف الكلمات . وتجذب السامعين إليه . ففى صوته نبرةٌ غريبة ، وجرْسٌ أخاذ يُجبر سامعه على الإنصات له .
..واستعرضت خديجة الأمر . لقد عادت التجارة بأضعاف أضعاف ما كانت ترجوه لها من ربح وهذا ما يشجع على التمسك بمن أشرف عليها هذه المرة ، لأن الربح سيتضاعف . ومحمد هذا ، لا يجب أن تفرط فيه خديجة أبدا . بل لترى بحاسة صاحبة الأعمال الواسعة أن الحكمة توجب ضرورة استبقائه وأن تكل إليه أعمالا بعد أعمال .
وكما كان محمد الأمين حديث قريش من قبل وموضع إعجاب وإكبار أهلها على مختلف أعمارهم ومراكزهم أصبح اليوم موضع اهتمام خديجة ، حتى أنها هى الأخرى تتحدث وتُطريه وتمتدحه أمام أقرب صاحباتها إليه ، وأن إحداهن وهى صاحبتها "نفيسة بنت منية" لتستمع إليها فى دهشة وتحس بأن خديجة تتحدث حديث القلب وأن فى النفس إلى محمد ، ما هو أكثر من الإطراء والمديح .