لقد رزق العقاد حسا شاعرا . وقلبا يخفق بكل ما تخفق به الطبيعة من أسرار . حتى إنه ليرى فى غناء الكروان مرة بعد مرة إبداعا فى الغناء مجدد الألحان:
زعموك غير مجدد الألحان - ظلموك ، بل جهلوك يا كروانى
قد غيرتك ، وما تغير شاعرا - عشرون عاما فى طراز بيان
أسمعتنى بالأمس ما لا عهد لى - بسماعه فى غابر الألحان
ورويت لى بالأمس ما لم تروه - من نغْمةٍ وفصاحةٍ ولسان
ولأن العقاد بفكره العملاق وخياله المحلق ، أكثر طيرانا فى آفاق الفكر من الكروان فى آفاق الفضاء ، فهو يناجيه فى حب واعتناق ، طائرا بجناحه ، شاعرا بلسانه ، مناجيا بضميره ، نابضا بقلبه ، رائيا بعينه ، ناعيا إليه كثافة الطين فى إنسان الأرض
أنا لا أراك وطالما طرق النهى - وحيى ولم تظفر به عينان
أنا فى جناحك حيث غاب مع الدجى - وإن استقر على الثرى جثمانى
أنا فى لسانك حيث أطلقه الهوى - مرحا وإن غلب السرور لسانى
أنا فى ضميرك حيث باح فما أرى - سرا يغيّبه ضمير زمانى
أنا منك فى القلب الصغير مساجل - خفْق الربيع بذلك الخفقان
أنا منك فى العين التى تهب الكرى - وتضن بالصحوات والأشجان
طرْ فى الظلام بمهجة لو صافحت - حجر الوهاد لهمّ بالطيران
تُغنيك عن ريش الجناح وعزمه - فرحات منطلق الهوى نشوان
فرحات دنيا لا يكدر صفوها - بالمين غير سرائر الإنسان
*************************************
من ديوان العقاد "هدية الكروان"
بقلم: محمد أحمد العزاب
آخر تعديل سرالختم ميرغني يوم 09-23-2018 في 07:07 AM.
أنا صائدٌ لصداك ، لست بصائدٍ - لك أنت يا كروان فأمن صائدى
بينا أقول هنا ، إذا بك من هنا - فى جُنح هذا الليل أبعدُ باعد
وودت يا كروان لو ألقيت لى - صوتين منك على مكانٍ واحد
إن كنت تُشفق أن أراك فلا تزل - فى مسمعى وخواطرى وقصائدى
عاهدتُ هذا الصيفَ لست بواهبٍ - سمعى سواك فهل تُراك معاهدى
آخر تعديل سرالختم ميرغني يوم 09-24-2018 في 11:32 PM.
وإلى الشاعرة هديل الدليمى هذه السطور
=======================
دفن مصطفى قامته فى المقعد ومدد رجليه وأمسك الكأس بكلتا يديه وسرحت عيناه فى آفاق بعيدة . ثم فجأةً سمعته يتلو شعرا انكليزيا بصوتٍ واضح ونطقٍ سليم . قرأ قصيدة وجدتها فيما بعد بين قصائد عن الحرب العالمية الأولى:
"هؤلاء نساء فلاندرز
ينتظرن الضائعين ،
ينتظرن الضائعين الذين أبدا لن يغادروا الميناء ،
ينتظرن الضائعين الذين أبدا لن يجئ بهم القطار ،
إلى أحضان هؤلاء النسوة ، ذوات الوجوه الميتة ،
ينتظرن الضائعين ، الذين يرقدون موتى فى الخندق
والحاجز والطين فى ظلام الليل .
هذه محطة شارنغ كروس ، الساعة جاوزت الواحدة .
ثمة ضوءٍ ضئيل ،
ثمة ألمٍ عظيم ."
بعد ذلك تأوه الرجل وهو لا يزال ممسكا بالكأس بين يديه ، وعيناه سارحتان ، فى آفاقٍ داخل نفسه .
أقول لكم لو أن عفريتا انشقت عنه الأرض فجأة ووقف أمامى ، عيناه تقدحان اللهب ، لما ذُعرت أكثر مما ذعرت .
----------------------
من كتاب "موسم الهجرة إلى الشمال"
للطيب صالح