المرآب
(شباط 1991)
في فجر اليوم التالي حزم أمتعته وودع زوجته التي لم تزل تعاني من أثار الولادة،وطبع قبلة على جبين الطفلة المولودة وحاول أن لا يلتفت إلى الوراء حتى لا يرى دموع زوجته النازلة بصمت وخوف فهذا اليوم الثاني لولادتها ولكنها تعي إن على زوجها الألتحاق بوحدته العسكرية ..إنها الحرب وقوانينها والتي تغيب عن بعضها الجوانب الإنسانية وتحجب مفرداتها الذاتية.
أستقل سيارة أجرة الى بغداد بعد إخلاء عائلته لمحافظة ديالى حيث مرأب النقل للمدن الجنوبية, كان المرأب يعج بالعسكريين وهم يرومون الإلتحاق لوحداتهم بعد اجازة قصيرة،وصوت الباعة يختلط مع اصوات التوديع من الأهل لأولادهم،رجل مسن يعانق ولده وهناك امرأة طاعنة في السن تحبس دمعتها وهي تودع ولدها ,وهو يصعد الى الحافلة التي ستقله إلى البصرة،كانت أمامه أمرأة طاعنة في السن تساعدها أمرأة في مقتبل العمر،فأبطأ في الصعود لحين صعودهما وكان مكان جلوسه خلفهم،أنطلقت الحافلة بعد أن اكتملت مقاعدها من الركاب،مع عبور الحافلة أخر نقطة تفتيش في بغداد،أستسلم البعض للأغفاءة والبعض الأخر ذهب في احاديث جانبية مع من بجانبه، وهو ينظر من النافذة الى الأفق البعيد شعر بيدين مرتجفتين تربت على كتفه ولم يكمل التفاتته ،قرّبت المرأة العجوز وجهها منه وهمست له:
-ولدي أتعرف كاظم!!
أصابته الحيرة ، من هو كاظم والدتي؟
-ولدي..ولدي..التحق قبل ايام معكم في الجيش..
هنا تدخلت المرأة الأخرى
-لا عليك سيدي..فهذه المرأة أمه..وأنا زوجته ونحن ذاهبون للبحث عنه..
سألهم وقلبه يغلي حزنا على هذه المرأة الطاعنة في السن وعلى الأخرى التي علامات الأنكسار بادية على وجهها
-في أي وحدة هو...
أجابت الزوجة
-لا نعلم فقد التحق كجندي احتياط وقالوا لنا ان وحدته في الكويت في الفرقة(17) هكذا قالوا لنا .
شعر ان قلبه يكاد يخرج من بين اضلعه،هذه الزوايا الأنسانية في زمن الحرب حين تتفاعل معها تلعن الحرب،استمرت في الحديث
-لا يوجد احد لأمه فهو الوحيد فأخوه الأكبر استشهد في الحرب مع ايران في الثمانينيات وهو معيلنا الوحيد ونعيش على عمله اليومي ونحن من قرية في اطراف مدينة الحلة واليوم التحق هو ولم يزل على زواجنا بضعة اشهر،قاطعتها المرأة العجوز
-لا نريد ان نثقل على الرجل ،وعادت توجه الكلام اليه وكأنها على يقين أنه يعرفه
-هو اسمه كاظم..طويل القامة و..قاطعها وهو يحاول ان يكتم عنها الحزن الذي انتابه وحاول ان تكون أجابته تعطيها نوعا من الأطمئنان
-والدتي اعطني الأسم الكامل له وأعدك خيرا ولكن لي طلب فعودي والدتي لأنها منطقة حرب ومن الصعوبة ان تصلي اليه فلم تقتنع، شعر من نظرتها اليه كأنها تلومه وتعاتبه، وشعر بنوع من الأحراج ، وفي غمرة أنفعاله قال لها
-والدتي اعطني عنوان نزلك في البصرة وسيكون ولدك بعد وصولنا بيوم ان لم يكن بساعات عندك
أنفرجت اساريرها ولم يشعر الا بيدين صلبتين ليس تلك المرتجفتين تسحبانه بقوة لتطبع قبلة طويلة على جبينه وتمتمت بصوت متهدج سنبقى في مرأب البصرة ونبيت فيه ..وعادت الى كرسيها لتذهب في اغفاءة طويلة.
رن الهاتف الخاص لآمر كتيبة الدبابات المقدم الركن فرج ,رفع السماعة على عجل فالوقت متأخر من الليل ولا بد هناك أمرهام
-ياه ..أخفتني في هذه الساعة المتأخرة من الليل ..أهلا أبا ماهر ما الخطب ؟؟
-لا شيء حالة إنسانية وأعتبرها خاصة لي وقد حصلت لك على موافقة خاصة بمنح جندي منتسب لديك بأجازة
-أشتقت اليك يا رجل ..
.......
الشيء الوحيد الذي ندم عليه كاظم هو زواجه من طيبة ,فبقدر حبه لها لكنه يشعر بتأنيب ضمير لربطه مصير حبيبته بمجهول في منطقة مشتعلة كلما انطفأت نار اشتعلت نارا أخرى ,هو في الموقع الخلفي لوحدته العسكرية بعد أن تعاطف معه آمر وحدته حين عرف إنه الوحيد لعائلته ومتزوج حديثا ,وهو في غمرة تأملاته سمع صوت عريف الفصيل يناديه..
-كاظم ..استعد فقد جاءك السعد يا رجل ..
-خيرا إن شاء الله ..ليس اكثر سعادة من موقع خلفي لمنطقة قتال مشتعلة
وبلهجة ساخرة قال له العريف حسن
-يا رجل يبدو انك تملك (واسطة) لها تأثيركبير..منحت اجازة عشرة ايام وعجلة توصلك للبصرة وهناك من ينتظرك والعنوان مع سائق العجلة!!انه السعد يا كاظم
اصابته الدهشة فهو لا يكاد يعرف إلا جاره بائع (البالة)وهي الملابس المستعملة والتي دائما ما يجود عليه ببعضا منها ,افاقه من دهشته صرخة العريف فيه
-هيا..ارزم اغراضك واركب العجلة الواقفة أمام الخيمة ..هكذا هي الأوامر العليا.
بعد انتظار قليل في استعلامات وحدة عسكرية في (الدرهيمية)وهي مجمع عسكري في اطراف البصرة شاهد رجلا وقورا بملابس مدنية يدخل عليهم وصوت جهوري فيه رقة
-هيا يا كاظم ..تعال معي لنذهب لوالدتك وزوجتك فهما في المرآب ينتظرانك
عقدت لسانه الدهشة ,نظر إلى الرجل المدني وفي عينيه تساؤل لا يجروء البوح فيه ,وقار الرجل واحترام من يحيط به جعله يكتم ما يدور من اسئلة في مخيلته
وصلا لمرآب البصرة قبل منتصف النهار ,جالا ببصرهما في انحاء المرآب ولم يرى أثرا للمرأتين,فقد كان المرآب يعج بالمسافرين ..ذهابا وإيابا ..تقدم منهم بائع الوجبات السريعة (الفلافل),وبعد السلام عليهم بادرهم بالقول :
-يبدو انكما تبحثان عن أحد ما ..لعلي استطيع مساعدتكما
-نبحث عن امرأتين احدهما مسنة والأخرى في مقتبل العمر وصلا عصر أمس وقالا سنبيت في المرآب..هما ينتظراننا
بسرعة نمت عن سرعة بديهية لهذا الرجل ..رغم إنه يعرف الجواب من خلال نظرته الثاقبة ..سألهما
-من منكما ..كاظم؟
-أنا وهذا..
قاطعه ابا ماهر
-لنذهب معه
في الطريق لحي (الحيانية)وهو الحي الذي يسكنه أبو جواد بائع (الفلافل)في المرآب قص عليهم كيف استضاف المرأة المسنة ورفيقتها ,عندما وجدهما تفترشان الأرض وتلتحفان بالعباءة في هذا البرد القارص لم يجد امامه إلا دعوتهما للمبيت في بيته ورغم ممانعة المرأة (أم كاظم)لكنه اقنعها إنه سيكون بديلا عنها في حالة مجيء ولدها ,لذا لم يأخذ استراحته المعهودة ولم يغمض له جفن منذ الأمس في انتظارهما .
لم يتحمل لقاء كاظم مع والدته وزوجته فخرج مسرعا ,لكنها وجدها تجري وراءه مسرعة
-ولدي...ليحفظك الله
حبس دمعته وهو يصعد لسيارته ثم ليلتفت إليها قائلا لها بصوت تكاد تخنقه العبرات..
-والدتي دعواك.. لأن يعم السلام على الجميع
(من..ومضات من تحت الركام ..وهي خليط ما بين الرواية والقصص القصيرة فمحورها واحد )
هي واحدة من آلاف القصص التي مرّت علينا بأسلوب سلس وشيق
حمدا لله أن النهاية كانت سعيدة وحظت الأم أخيرا بلقاء ولدها الوحيد
لقد عشت الأحداث وكأنني كنت معهم حقا
سررت كوني إحدى عابريها
كلّ البيلسان
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم...
كم مر بنا في خضم واقعية هذه القصة المؤلمة من مواقف عشناها بأنفسنا
أو حدثت مع من نعرف جيدا!
لله الأمر من قبل ومن بعد...
شكرا لكم أديبنا الجميل ولا عدمتم الفكر الثاقب
تقديري والاحترام
هي واحدة من آلاف القصص التي مرّت علينا بأسلوب سلس وشيق
حمدا لله أن النهاية كانت سعيدة وحظت الأم أخيرا بلقاء ولدها الوحيد
لقد عشت الأحداث وكأنني كنت معهم حقا
سررت كوني إحدى عابريها
كلّ البيلسان
نعم هي واحدة من الاف القصص وذات منحى واحد مع اختلاف التفاصيل والمواقع
وسررت شاعرتنا الفاضلة الهديل لكونك هنا ..بيادر ورد جوري مع فائق تقديري
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم...
كم مر بنا في خضم واقعية هذه القصة المؤلمة من مواقف عشناها بأنفسنا
أو حدثت مع من نعرف جيدا!
لله الأمر من قبل ومن بعد...
شكرا لكم أديبنا الجميل ولا عدمتم الفكر الثاقب
تقديري والاحترام
كل التقدير والامتنان شاعرنا الجميل لهذا المرور الحاتمي
بيادر ورد جوري لكم مع فائق التقدير
كان يرفض دائما نزوح عائلته من العاصمة بغداد رغم اشتداد القصف الجوي عليها وشمل الأحياء السكنية منها وانقطاع الماء والكهرباء وكل سبل الحياة الطبيعية.كان يعتقد البقاء في بيتهم اخف وطأة من النزوح ولكن. سيطر الرعب على اطفاله من شدة القصف العشوائي لبغداد وفي اخر اتصال له معهم..شعر ان وجود حل..يستدعي تواجده..لتخفيف حالة الرعب لديهم...
أستأذن من مرؤسيه..يومان للذهاب لعائلته فقد مضى اكثر من ثلاثين يوماً لم يزرهم..ورغم بعد المسافة..فوحدته العسكرية في البصرة في الدريهمية..وعائلته في بغداد..
وصل فجرا..مع زملاء له..فشحة الوقود لا تسمح
لكل منهما عجلة.. وجد عائلته في رعب مروع..
بالأمس قصف مقر للدفاع المدني وهو قريب لبيته..وجد اطفاله في حالة ذهول غريب..استقبلته الصغرى ..وهي تشكوه رعبها..وتخبره باحلامها المرعبة..وتشرح له كيف صديقتها وامها وهي مارة قرب الدفاع المدني كيف تناثرت اشلائهما
ورغم ان هذا المقر ليس عسكرياً ..بل هو للاسعافات الطارئة من حرائق وكوارث طبيعية ولكن في نشرة الاخبار المضللة ..تم قصف مخبأ للمواد الكيمياوية..
لم يكن امامه الا الذهاب للريف حيث طفولته وموطن اهله..فأخته من ابيه هناك..وقسم من ابناء عمومته..وهكذا اخذ عائلته..وكل الذي اخذوه معهم..ملابسهم..وحاجياتهم الأنية..
حين وصل القرية تفاجأ بأن القرية مكتظة بالنازحين من العاصمة..منهم اقرباء ومنهم غرباء والقرية في نفير..انساني..فالعوائل النازحة للقرية
اكبر من أن تستوعبها بيوت القرية..
هناك من افترش الارض العراء..وهناك من استظل بالبساتين..اضافة لما استوعبته بيوت القرية..
عاتبته اخته..-كان يجب ان تجيء بهم قبل هذا الوقت..لم يجد لها جواباً..
لم يكن له خيار..فقد كان بيت لابن اخته مقابل بيتهم بيت قيد الأنشاء ,بيت يفتقد كل معايير السكن,بيت تخترقه الرياح من كل صوب, وارضه الترابية زحفت اليها الرطوبة من اثر المطر,لا شبابيك ولا ابواب..بيت لم يمتلك من اسمه الا الطابوق وجدرانه وسقوفه الأسمنتية..لم يكن امامه الا القبول به..ولم يكونوا وحدهم فيه..فقد حشر معهم عوائل قريبة لهم..أستقر الحال بهم هناك..وكانت لمحه انسانية رائعة ..تقاسم الجميع الافرشة والمأكل..واستنفر الصغار والكبار..فغطت الشبابيك بالأقمشة كذلك الأبواب..ولما لم يكن هناك مواد تدفئة..لم يكن امامهم الا الاشجار اليابسة..
من الطبيعي جداً ان تكون هناك معاناة في المعيشة ..فعائلته تربت في العاصمة وترفها وزوجته من العاصمة ..حتى هو..لم يعرف من الريف الا ذكريات قسم منها شيء من الحلم...
زوجته كانت في شهرها الأخير..وكان ينتابه شعور ما..بأن المخاض قد يأتيها في أي لحظة
فقد ولد كل اطفاله في زمن الحرب ..وكانت ولادتهم تتم في اليوم الأخير لأجازته..ربما هو جانب نفسي يجتاح زوجته ويعجل بولادتهم..ولكنه كان يحرجه..فعليه البقاء معها..ولكن سيرته وموقعه كان شفيع له دائما لتأخره....
حزم حقائبه, فقد حان موعد قدوم العجلة التي ستقله لوحدته العسكرية...
ها قد وصلت العجلة بموعدها..دخل الى زوجته وأولاده مودعاً..وعندما هم بالخروج..سمع صوت زوجته الخافت..لا تذهب...فقد جاء المخاض..
لم يتفاجأ..بل كان يتوقعه..ولم يكن امامه الا ان يبقى...كان يعلم ان الظرف العسكري لا يسمح له بذلك ولكن لم يكن امامه خيار..كان من الصعب عليه التأخر في الألتحاق..وخاصةً هو جزء من الهرم القيادي في وحدته العسكرية..رغم انها فنية هندسية مساندة لكن هذا لا يعفيه من التواجد..فكل الأخبار والمؤشرات اللوجستية تشير الى ان الهجوم البري قادم بعد ان قطعوا أوصال العراق من طرق برية ومنشأة وبنى تحتية..ولكن امامه الا الأسراع في نقل زوجته للمشفى في القضاء لان القرية تخلوا من مركز صحي او مشفى..
في المشفى لم يكن الا طبيبة مقيمة..وعاملة خدمة..والظلام الدامس يلفها, الا من فانوس صغير يكاد ينطفيء لقلة النفط فيه..
كان المخاض في أوجه.أدخلوها لصالة الولادة والمشفى اسمه هكذا والصالة اسمها هكذا فهي لا تملك الا الأسم..
خرجت والدته وتبعتها اخته..وهما في حالة انشراح..مبروك..جاءتك عروسة أمورة..تمتم الحمد لله..ما أعطى..
لم يخطر في باله أسمها..كان في قلق على زوجته والطفلة..ودخل اليها ..الحمد على السلامة..همست بصوت متهدج..أسميتها دعاء..دعاء لك بالعودة والسلامة..دعاء السلام..
(يتبع)
الفصل الثاني
عاصفة الموت
فجر اليوم التالي حزم أمتعته وودع زوجته التي لم تزل تعاني
من أثار الولادة،وطبع قبلة على جبين الطفلة المولودة(الأن هي
طبيبة اسنان تزاول عملها ببراعة) وحاول ان لا يلتفت الى الوراء
حتى لا يرى دموع زوجته النازلة بصمت وخوف.
أستقل سيارة أجرة الى بغداد حيث مرأب النقل للمدن الجنوبية
كان المرأب يعج بالعسكريين،وصوت الباعة يختلط مع اصوات
التوديع من الأهل لأولادهم،وهو يصعد الى الحافلة التي ستقله
الى البصرة،كانت أمامه أمرأة طاعنة في السن تساعدها أمرأة في
مقتبل العمر،فأبطأ في الصعود لحين صعودهما وكان مكان جلوسه
أمامهم،أنطلقت الحافلة بعد أكمال مقاعدها من الركاب،مع عبور الحافلة
أخر نقطة تفتيش في بغداد،أستسلم البعض للأغفاءة
والبعض الأخر ذهب في احاديث جانبية مع من بجانبه،وهو ينظر
من النافذة الى الأفق البعيد شعر بيدين مرتجفتين تربت على كتفه
ولم يكمل التفاتته ،قرّبت المرأة العجوز وجهها منه وهمست له:
-ولدي أتعرف حازم!!
أصابته الحيرة ،من هو حازم؟
-ولدي..ولدي..التحق قبل ايام معكم في الجيش..
هنا تدخلت المرأة الأخرى
-لا عليك سيدي..فهذه المرأة أمه..وأنا زوجته ونحن ذاهبون للبحث
عنه..
سألهم وقلبه يغلي حزنا على هذه المرأة الطاعنة في السن
وعلى الأخرى التي علامات الأنكسار بادية على وجهها
-في أي وحدة هو...
أجابت الزوجة
-لا نعلم فقد التحق كجندي احتياط وقالوا لنا ان وحدته في الكويت
في الفرقة(17) هكذا قالوا لنا .
شعران قلبه يكاد يخرج من بين اضلعه،هذه الزوايا الأنسانية في
زمن الحرب ،حين تتفاعل معها تلعن الحرب،استمرت في الحديث
-لا يوجد احد لأمه فهو الوحيد فأخوه الأكبر استشهد في الحرب مع
ايران في الثمانينيات واليوم التحق هو ولم يزل على زواجنا بضعة اشهر،قاطعتها المرأة العجوز
-لا نريد ان نثقل على الرجل ،وعادت توجه الكلام
اليه وكأنها على يقين أنه يعرفه
-هو اسمه حازم..طويل القامة و..قاطعها وهو يحاول ان يكتم عنها
الحزن الذي انتابه وحاول ان تكون أجابته تعطيها نوعا من الأطمئنان
-والدتي اعطني الأسم الكامل له وأعدك خيرا ولكن لي طلب فعودي
والدتي لأنها منطقة حرب ومن الصعوبة ان تصلي اليه
لم تقتنع،شعر من نظرتها اليه كأنها تلومه وتعاتبه،وشعر بنوع من
الأحراج ،وفي غمرة أنفعاله قال لها
-والدتي اعطني عنوان نزلك في البصرة وسيكون ولدك بعد وصولنا
بيوم ان لم يكن بساعات عندك
أنفرجت اساريرها ولم يشعر الا بيدين صلبتين ليس تلك المرتجفتين
تسحبانه بقوة لتطبع قبلة طويلة على جبينه وتمتمت بصوت متهدج سنبقى
في مرأب البصرة ونبيت فيه ..وعادت الى كرسيها لتذهب في اغفاءة طويلة.
المرآب
(شباط 1991)
في فجر اليوم التالي حزم أمتعته وودع زوجته التي لم تزل تعاني من أثار الولادة،وطبع قبلة على جبين الطفلة المولودة وحاول أن لا يلتفت إلى الوراء حتى لا يرى دموع زوجته النازلة بصمت وخوف فهذا اليوم الثاني لولادتها ولكنها تعي إن على زوجها الألتحاق بوحدته العسكرية ..إنها الحرب وقوانينها والتي تغيب عن بعضها الجوانب الإنسانية وتحجب مفرداتها الذاتية.
أستقل سيارة أجرة الى بغداد بعد إخلاء عائلته لمحافظة ديالى حيث مرأب النقل للمدن الجنوبية, كان المرأب يعج بالعسكريين وهم يرومون الإلتحاق لوحداتهم بعد اجازة قصيرة،وصوت الباعة يختلط مع اصوات التوديع من الأهل لأولادهم،رجل مسن يعانق ولده وهناك امرأة طاعنة في السن تحبس دمعتها وهي تودع ولدها ,وهو يصعد الى الحافلة التي ستقله إلى البصرة،كانت أمامه أمرأة طاعنة في السن تساعدها أمرأة في مقتبل العمر،فأبطأ في الصعود لحين صعودهما وكان مكان جلوسه خلفهم،أنطلقت الحافلة بعد أن اكتملت مقاعدها من الركاب،مع عبور الحافلة أخر نقطة تفتيش في بغداد،أستسلم البعض للأغفاءة والبعض الأخر ذهب في احاديث جانبية مع من بجانبه، وهو ينظر من النافذة الى الأفق البعيد شعر بيدين مرتجفتين تربت على كتفه ولم يكمل التفاتته ،قرّبت المرأة العجوز وجهها منه وهمست له:
-ولدي أتعرف كاظم!!
أصابته الحيرة ، من هو كاظم والدتي؟
-ولدي..ولدي..التحق قبل ايام معكم في الجيش..
هنا تدخلت المرأة الأخرى
-لا عليك سيدي..فهذه المرأة أمه..وأنا زوجته ونحن ذاهبون للبحث عنه..
سألهم وقلبه يغلي حزنا على هذه المرأة الطاعنة في السن وعلى الأخرى التي علامات الأنكسار بادية على وجهها
-في أي وحدة هو...
أجابت الزوجة
-لا نعلم فقد التحق كجندي احتياط وقالوا لنا ان وحدته في الكويت في الفرقة(17) هكذا قالوا لنا .
شعر ان قلبه يكاد يخرج من بين اضلعه،هذه الزوايا الأنسانية في زمن الحرب حين تتفاعل معها تلعن الحرب،استمرت في الحديث
-لا يوجد احد لأمه فهو الوحيد فأخوه الأكبر استشهد في الحرب مع ايران في الثمانينيات وهو معيلنا الوحيد ونعيش على عمله اليومي ونحن من قرية في اطراف مدينة الحلة واليوم التحق هو ولم يزل على زواجنا بضعة اشهر،قاطعتها المرأة العجوز
-لا نريد ان نثقل على الرجل ،وعادت توجه الكلام اليه وكأنها على يقين أنه يعرفه
-هو اسمه كاظم..طويل القامة و..قاطعها وهو يحاول ان يكتم عنها الحزن الذي انتابه وحاول ان تكون أجابته تعطيها نوعا من الأطمئنان
-والدتي اعطني الأسم الكامل له وأعدك خيرا ولكن لي طلب فعودي والدتي لأنها منطقة حرب ومن الصعوبة ان تصلي اليه فلم تقتنع، شعر من نظرتها اليه كأنها تلومه وتعاتبه، وشعر بنوع من الأحراج ، وفي غمرة أنفعاله قال لها
-والدتي اعطني عنوان نزلك في البصرة وسيكون ولدك بعد وصولنا بيوم ان لم يكن بساعات عندك
أنفرجت اساريرها ولم يشعر الا بيدين صلبتين ليس تلك المرتجفتين تسحبانه بقوة لتطبع قبلة طويلة على جبينه وتمتمت بصوت متهدج سنبقى في مرأب البصرة ونبيت فيه ..وعادت الى كرسيها لتذهب في اغفاءة طويلة.
رن الهاتف الخاص لآمر كتيبة الدبابات المقدم الركن فرج ,رفع السماعة على عجل فالوقت متأخر من الليل ولا بد هناك أمرهام
-ياه ..أخفتني في هذه الساعة المتأخرة من الليل ..أهلا أبا ماهر ما الخطب ؟؟
-لا شيء حالة إنسانية وأعتبرها خاصة لي وقد حصلت لك على موافقة خاصة بمنح جندي منتسب لديك بأجازة
-أشتقت اليك يا رجل ..
.......
الشيء الوحيد الذي ندم عليه كاظم هو زواجه من طيبة ,فبقدر حبه لها لكنه يشعر بتأنيب ضمير لربطه مصير حبيبته بمجهول في منطقة مشتعلة كلما انطفأت نار اشتعلت نارا أخرى ,هو في الموقع الخلفي لوحدته العسكرية بعد أن تعاطف معه آمر وحدته حين عرف إنه الوحيد لعائلته ومتزوج حديثا ,وهو في غمرة تأملاته سمع صوت عريف الفصيل يناديه..
-كاظم ..استعد فقد جاءك السعد يا رجل ..
-خيرا إن شاء الله ..ليس اكثر سعادة من موقع خلفي لمنطقة قتال مشتعلة
وبلهجة ساخرة قال له العريف حسن
-يا رجل يبدو انك تملك (واسطة) لها تأثيركبير..منحت اجازة عشرة ايام وعجلة توصلك للبصرة وهناك من ينتظرك والعنوان مع سائق العجلة!!انه السعد يا كاظم
اصابته الدهشة فهو لا يكاد يعرف إلا جاره بائع (البالة)وهي الملابس المستعملة والتي دائما ما يجود عليه ببعضا منها ,افاقه من دهشته صرخة العريف فيه
-هيا..ارزم اغراضك واركب العجلة الواقفة أمام الخيمة ..هكذا هي الأوامر العليا.
بعد انتظار قليل في استعلامات وحدة عسكرية في (الدرهيمية)وهي مجمع عسكري في اطراف البصرة شاهد رجلا وقورا بملابس مدنية يدخل عليهم وصوت جهوري فيه رقة
-هيا يا كاظم ..تعال معي لنذهب لوالدتك وزوجتك فهما في المرآب ينتظرانك
عقدت لسانه الدهشة ,نظر إلى الرجل المدني وفي عينيه تساؤل لا يجروء البوح فيه ,وقار الرجل واحترام من يحيط به جعله يكتم ما يدور من اسئلة في مخيلته
وصلا لمرآب البصرة قبل منتصف النهار ,جالا ببصرهما في انحاء المرآب ولم يرى أثرا للمرأتين,فقد كان المرآب يعج بالمسافرين ..ذهابا وإيابا ..تقدم منهم بائع الوجبات السريعة (الفلافل),وبعد السلام عليهم بادرهم بالقول :
-يبدو انكما تبحثان عن أحد ما ..لعلي استطيع مساعدتكما
-نبحث عن امرأتين احدهما مسنة والأخرى في مقتبل العمر وصلا عصر أمس وقالا سنبيت في المرآب..هما ينتظراننا
بسرعة نمت عن سرعة بديهية لهذا الرجل ..رغم إنه يعرف الجواب من خلال نظرته الثاقبة ..سألهما
-من منكما ..كاظم؟
-أنا وهذا..
قاطعه ابا ماهر
-لنذهب معه
في الطريق لحي (الحيانية)وهو الحي الذي يسكنه أبو جواد بائع (الفلافل)في المرآب قص عليهم كيف استضاف المرأة المسنة ورفيقتها ,عندما وجدهما تفترشان الأرض وتلتحفان بالعباءة في هذا البرد القارص لم يجد امامه إلا دعوتهما للمبيت في بيته ورغم ممانعة المرأة (أم كاظم)لكنه اقنعها إنه سيكون بديلا عنها في حالة مجيء ولدها ,لذا لم يأخذ استراحته المعهودة ولم يغمض له جفن منذ الأمس في انتظارهما .
لم يتحمل لقاء كاظم مع والدته وزوجته فخرج مسرعا ,لكنها وجدها تجري وراءه مسرعة
-ولدي...ليحفظك الله
حبس دمعته وهو يصعد لسيارته ثم ليلتفت إليها قائلا لها بصوت تكاد تخنقه العبرات..
-والدتي دعواك.. لأن يعم السلام على الجميع
(من..ومضات من تحت الركام ..وهي خليط ما بين الرواية والقصص القصيرة فمحورها واحد )
جمعها ليس حراما ..وإذا فرقتها فيما بعد لغايات أخرى فلن تكون آثما
ولكن العجيب أنك لم تكمل هذا العمل وكأنك زاهد بالأجر..عموما هي شهادات
وشهود عيان على كارثة العراق عام ـــ 1991 ـــ وتستحق عنايتكم وقد كنتم
في قلب الحدث..
الأعجب أنني لن أعلق الآن عليها لأنني أرغب في قراءة أخرى أكثر عمقا..طبعا
هذاان لم تبدلوا فيها شيئا كالحذف (مثلا) أما الاضافات فهي مطلوبة وبقوة.