أضواء على قصيدة النثر في الآداب العالمية
أ.د. الياس خلف
بداية أود تأكيد ضرورة التعريف بجذور مصطلحي «القصيدة» و «الشعر» بغية الوصول إلى مصطلح «قصيدة النثر» بوصفها جنساً شعرياً انبثق من أرومة الشعر ذاتها.
جاء في «معجم المصطلحات الأدبية ونظرية الأدب» مايأتي:
تنحدر كلمة «poetry» الإنكليزية من الكلمة اللاتينية المتوسطة poetria التي اشتقت من الكلمة الإغريقية poetes التي تعني الصانع أو المبدع، ويتسم مصطلح الشعر بالشمولية لأنه يشير إلى كل أنواع الكتابة الموزونة موسيقياً، ولهذا يجدر التأكيد أن الشعر هو شكل سامٍ ورفيع من الإبداع لأنه يشكل وحدة تآلف بين الكلمة وموسيقاها وإيحاءاتها العديدة.
واشتق مصطلح القصيدة poem من الكلمة الإغريقية poiema التي تعني العمل المُتقن أو المُبْدَع، أي العمل الأدبي الجميل الصُنع، والقصيدة منجزٌ شعري يقوم على القافية أو على الكلمات المرصوفة التي تشكل بنية موسيقية ومضموناً ذا أبعاد إنسانية، وذهب العديد من النقاد إلى أن القصيدة تختلف عن سائر صنوف الكتابة لأن سحراً رائعاً فيها يجعل المبنى والمعنى وحدة عضوية متكاملة، تتحد فيها الكلمات والجرس الموسيقي، فتولّد صوراً بيانيةً تحلّق في ظلال ألحان عذبة سلسة
وقبيل الولوج إلى مصطلح قصيدة النثر، نجد لزاماً علينا تعريف مصطلح النثر، الذي اشتُقَّ من الكلمة اللاتينيةprosa أو proversa oratio،أي الخطاب الواضح الخالي من الصنعة البديعية أو الصور البيانية، ومن الجدير بالذكر أن النثر يعتمد أسلوباً واضحاً بيّناً، فهو يقوم على العلاقة المثلى بين الكلمة ومحتواها، أو معناها، ولا يوظّف إيحاءاتها أو دلالاتها الرمزية الخفية، بيد أن القصيدة المنثورة تختلف عن الكتابة النثرية، لأنها تمتاز بأنغامها التي تربط مابين الكلمة وموسيقاها ومختلف الصور البيانية التي تحتضنها، وتقوم القصيدة النثرية على القافية الخارجية والقوافي الداخلية والسجع الجميل وتكرار الكلمات المتماثلة لفظاً والصور الفجائية المُبدعة.
ويُعدُّ الشاعر الفرنسي ألويسيوس برتراند «1807-1841» أول من أسس القصيدة النثرية بوصفها جنساً شعرياً، فمجموعته الشعرية الموسومة بـ «آلام الليل» 1842 تضم خواطر ليلية تتسم بالشحوب والقنوط والوحدة، ونقتطف من خاطرة معنونة بـ «الوحدة في الليل الكئيب» المقطع الآتي:
براثن الوحدة الفتّاكة تشدّ الخناق على روحي...
أرى جدار الصمت يحاصرني، يسيّجني...
تحاول روحي العصفورة أن تطير، لكن جناحيها مبدّدان...
وجسدي يمنعها، ويغلق كل الأبواب أمامها... يوصدها بإحكام..
فروحي سر كآبتي التي تعزّيني في هذا الظلام الداكن...
آهٍ! آهٍ! تكاد روحي تختنق..
أيها الليل الشجي، إنك تبكي لأنك تسمع أنّات قلبي
إنك تنوح لأنك تصغي إلى همسات روحي السجينة التي تحتضر..
إنك تبكي -أيها الليل- لأن لا أحد يعي ماأعاني
لاأحد يفهمني، لاأحد يرى نزيف روحي الداخلي..
هاهي وحدتي! هاهي مأساتي!
إنها سجن كبير، سجن أشبه بسجن هاملت في الدانمارك.
أيها الليل الجليل أنا مثلك، لقد هربت إليك من بشر النهار
فهم مخلوقات تأكل وتشرب وتتناسل لتتكاثر!!!
لقد أصمّوا أرواحهم، وخنقوا قلوبهم الرهيفة!
أيها الليل المهيب، أملي الوحيد بسيط: أريد من يفهمني!
أريد إنساناً، إنساناً، إنساناً!!!
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بودلير قد تأثر بقصيدة النثر البرتراندية، إذكتب مقطوعات شعرية منثورة تبوح بآلام الروح وعذاباتها في عام 1869، وتأثر العديد من الشعراء بقصيدة النثر من أمثال رامبو وأوسكار وايلد وإيمي لويل وتِ، إس.إيليوت، وجاء من بعد أولئك الشعراء كل من بيتر ريدغريف ودافيد، ويفيل اللذين تخيّرا القصيدة النثرية قالباً سكبا فيه شجونهما، وأود هنا إيراد مقطع من قصيدة نثرية للشاعر البريطاني جيفري هيل الذي كتب «أغانٍ لميرسيا»، وميرسيا اسم مملكة في إنكلترا العهد الأنكلوسكسوني الكلاسيكي.
وتدعى هذه القصيدة «الحنين الجارف إلى الزمان الحق»:
إننا في غابة يحكمها سلطان القوة! إننا في بحر تتراكض فيه الأسماك الصغيرة هرباً من الحيتان الضخمة!
أمّاه! لِمَ تركتني فريسة بل لقمة للحوت المارد، إنني سمكة صغيرة!!
ياابنتي.. معذرة وألف معذرة! لقد جاء الحوت الهادر، ولاأستطيع حمايتك، فمعذرة!
ياربّ الأسماك الصغيرة، لماذا لاتعرف الحيتان الشرهة الرحمة؟!
ماذنب السميكات الصغيرات التي لاتقوى على الفرار؟!
هذه السميكات ليست بسميكات حقيقية، إنها صورة لأولئك الضعفاء الذين لاحول لهم ولاقوة!!
آهٍ، أين إلهات العدالة والمساواة والحب؟ أين ربات الشعر التي تلهم الشعراء كي ينفثوا مافي أرواحهم؟
ياذا الروح الرهيفة، تعال نبكِ ونقول:
وصفوة القول: هذه هي قصيدة النثر، لقد جاءت لأن طبيعة الحياة قد تغيّرت، ولم تعد القوافي الشعرية «القصيدة الطويلة أو السونيتة» المقفاة تلبي الحاجة، فالشاعر والقارئ يريدان أن يسبحا مع الروح في بحر الكلمات المنثورة التي تحررت من قيود القوالب الشعرية ووظفت الصور الظريفة الساحرة.