حساب في يوم من أيام الصيف القائظ قاربت الغزالة كبد السماء غير منقبة ، حاسرة الرأس ، متجرِّدَة الثياب حتى من القمص الشفافة البيضاء مُرسِلَةً شواظًا ، ومن لهيبها رسائل غرام إلى عشاقها من الأفلاك السابحة في محيطات السماء واجدة من الشوق تريد العناق ، قائلة لأهل الأرض : غُضُّوا طَرْفَكُم ، وادخلوا بيوتكم ، ولا تكونوا رقباء . وبعد أن انصرف الناس من الأسواق ، يَمَّمْتُ وجهي نحو البيت مسرعًا من فحيح الهاجرة وأَلْقَيتُ بنفسي على المهاد أريد الاستراحة بعد العناء. وقبل أن تأخذني سِنَةٌ من النوم .. غاص فكري في بحار السنين ، مسترشدًا من هذه الظُّلُمَات بشُعْلَةِ الإيمان والأمل المشرق الفياض ، لتجوب في أعماق المستقبل المجهول ، وتُبَيِّنَ لي كلما أوغلت في بقايا العمر كيف نهشتني سود الليالي بأنياب الواقع الأليم فأرفع شراعي الرفراف من الصبر والجلد ، مجدِّدًا ثباتي ، حاملاً في حنايا أضلعي آمالي العِذَاب وبعض ما نَدَّ([1]) عن رغباتي لعَلِّي أستروح بعض آهاتي ، بعد أن كَحَّلَ أَجْفَانِي غُبَارُ السِّنين وأعاق تقدُّمي في خطواتي . وعلى حاشية الأفق البعيد ، نثرت كنانة أعوامي المنصرمة من حياتي ، فلم أجد منها الكثير .. لقد طويت رداءَ شبابي ردحاً([2]) من الزمن واليوم أقوم بِطَيِّ ما بقي من العمر متأهبًا للرحيل متزودًا بسجلات حساباتي ، فوطنت نفسي أن لا أُفَرِّطَ فيما بقي إلا بثمن وحساب دقيق وعمل صالح يكون زادًا لما بقي من رحلة العمر وفيه ربح مؤكد - إن شاء الله - ولاسيما أن الرحلة شارفت على الوصول ولا بد لكل مسافر من حساب ومحاسبة : فيا آل ودي وأحبتي ؛ لابد بعد كل فراق من لقاء وبعد كل عسر من يسر وبعد كل زرع من حصاد وبعد كل ليل من فجر ينفض
ما بقي من غبار الليل ويمسح بيده جبين الكآبة وترسل الشمس أشعتها الذهبية ، تَسَّاقَطُ على النفس كالنَّثَار([3]) المتلألئ على صفحة ماء الغدران والسواقي المنساب فوق الخمائل والأعشاب الخضرة النضرة . يوسف الحسن |