كل ما تجلّى أمام نظري تلك الثواني أنّ العروبة لا زالت تعيش فصول مراهقتها ... !
******************************
كما كنت تماما أسترجع تفاصيل مراهقتي ... كنت أُقلّب دفاتري القديمة علّني أجد بين أنقاض الكلمات طيف امرأة ... بتفاصيلها المرسومة على لوحات وصفي كرجل يتوق لكل ما هو خاص .. و شاعري، متدّفق البراءة و العفّة ..
كنت أبحث بين الكلمات المتلعثمة التي تخرج من شفتيّ مشلولة من أثر الانحناءات الكثيرة بمجاري دمي .. و لأنّها مرّت بقالب شراييني المكّهرب خرجت مشوّهة، خرجت مشنوقة،
أعماقي تحتضر ....
التحفت الصمت لليال طوال بعد أن شعرت ببرد يدوس باحتقار شديد منطلق الكلمات .. و أدخلت قلمي في استراحة استجمام بتاريخ مفتوح حتى لا يفضح تاريخا قد خرج لتوّه من عتمة الحاضر .... رفضت الكتابة و كلّ ما له صلة بمعترك الصفحات المشحونة ..
لطالما طاردتني خاطرة البحث عنها بين زحام الأجساد المتمايلة في تناغم شديد و الموسيقى الشاردة الحواس ... و بين الطاولات الملّغمة بكؤوس الضلال و بين قطع القماش و بين جسور الطّيش و العبث .... خرجت منتصرا من حروبي النّفسية المتجبّرة بخسائر أكثرها معنوية، زجّت بي بأقبية الشجن الموحش، الذي التهم جزءا من ذاكرتي و شوّه تصاميم قصري بمداخله الاثني و العشرين، ... و أتلف أشجار حديقتي الغنَّاء و شرَّد حدود الظِّلال، داس زهر الياسمين الأبيض، بما يحويه من معانٍ لكفنٍ عربي أصيل و أبقاني وحيدا تجلو الرّياح هشاشة عظامي فتصعقني كل ثانية و تلتّف حول عرس تَحطُّمي، ترقص و تُسرِف في بذخ التعالي المهووس بالكذب .. تركني وحيدا عند شواطئ الألم بعد أن أقفل محادثتي الشاعرية و طيور النورس، حين كشف علاقة شعري الوطيدة بالبحر ... و معالم الشتاء ..
ذات مساء و أنا أتابع أخبار طفولتي المتشرّدة، حاصرتني هي بأمومتها و قد كتبت شعارها فوق لفافتي حين كنت رضيعا، العشق يولد بمغص شديد يتزامن و لحظة الميلاد لذلك كان الصراخ لئيما .. و كأنّها بمنطق الحب الآسر و هفواته المغفورة ترّصدتني حتى زمن مولدي الأول، كتبت جملتها على زجاج الرّوح و كان المطر حينذاك يرسم ممراته السرّية على شفتيّ فلا أستطيع معه تحدي الكلمات . كتبت عصفورتي الصغيرة " على مرأى من أمومتي ولِد جنس آخر من الرجال " ... و كأنّها تستوضح أمرا من خلال تلاعبها الذكي بالكلمات .. تلك الجملة التي جعلتني أتفقّد شيئا مني لها و لي .. طفولتي و رجولتي .. فأين أنا من الصنفين .. ؟؟
قهوتي الصباحية و المسائية قطعت خلوتها السوداء قطعان الكلمات التي خرجت من مرتعها، من مللها، لتحطّ فوق فنائها و بين الفقّاعات الجميلة لتعكّر طقس استئناسي بفنجان قهوة صُنِع خصيصا ليقهر مساءً مداعبات النّوم المنافقة و ليفضح صباحا تثاؤبات رغبة خفيّة في الاستيقاظ الشرس .. الحروف المتراصّة على طاولتي تمنعني من شغل مكانها بقطعة حلوى و تابوت الدفاتر المنسية .. و هي .. هي التي اكتسحت طاولتي بملامحها الممسوحة .. فرشت شعرها كرمال فاجأتها زوبعة قاسية فقَلَبَت فنجاني و تعثَّرت أفكاري بقطعة زجاج مكسورة .. حتى القهوة لها رغباتها الخفيّة في الانتقام من كل دخيل قد يشوِّه لحظات ارتشافها .. كأنثى لحظة تجبّر أنوثة غيرها ..
و كأنّي كنت أبصر قصائد شعر محلّقة تعلو طاولتي ... تتراقص في فتنة و تدعوني لأن أضمّها و أسكنها عش كتبي للأبد .... غير أنّي كنت أخشى حفلات الزّفاف المفاجئة ... خفت من شبح تلك المرأة المحفور بجداري الشعري .... خفت أن يحتَّل مساحة جغرافية تتنازعها قارات عزوبيّتي فيما بعد ولم أعد أقوى على مجابهة أيّ حصار .. خفت أن أضعف أمام نداء الأبوّة رغم تنكّرها لي .. !!
و كأنّ مناعتي تداعت أمام حصانة تواجدها ... بميزة فريدة " امرأة بدون ملامح " " بدون تصاميم معلومة " ... بدون حاضر .... و بدون شاهد إثبات .. لأنّي نويت حينها أن لا أُعمِّد ولادتها القيصرية و الجرح الغائر الذي تركه مخاض ولوجها سلسلة أفكاري محكمة القيد .... شغلت عيادتي الشعرية فقط بلملمة آثار النكبة على باقي الشقوق النفسية القديمة المتهرّئة من كثرة الزلازل .... و الكدمات .. و عنجهية الفصول المتراكمة و كأنّها ملك لسنة شمسية حُذِفت في غفلة من قدر ... فاضطربت معها الشهور و تعطلّت المواعيد المقرّرة المعقودة بساعات معينة .. كل ساعات العالم ضُبِطت على زاوية الصفر و لأنّ الصفر لا يطابق شيئا من عقارب الزمن انتكست رغبتي في لقائها و انتكس القمر ..
أكيد أنّها تحمل حرفا جديدا أو مكرّرا من بين حروف شيفرات الأنوثة، حرف يئِست قدراتي عن إدراكه ..و أيّ حرف قد تحمله أنثى أشاحت بوجهها عني .. أيّ اسم قد أرمز لها به في شهادة ميلادها الجديدة ... يوم ولدت من أنقاضي .. في انتظار ميلاد آخر ..
سنة 2011 دخلت ثورية مدّمرة .... أحداث العدوان المفاجئ على قلبي المسالم بدأت تأخذ منحى خطيرا ... وشوشات طفولية تشحن ذخيرتي من الرجولة لتسحقني على حدود طيف امرأة .. وكأنّ الهزيمة لا تستحق إلا إذا كان الخصم رجلا أو امرأة مكتملي الوصف الإنساني ...
ثم من تلك المرأة ..؟؟
كي تدوس على رجل لطالما سُحِقَت حروف لنساء تحت قدميه و بحذاء شتوي فوق أرض موحلة ..
آه من تلك الحقبة التاريخية من زمن طفولتي و المطر و شرخ الكلمات ..
آه من دبدبات الكعب العالي الذي كانت تنتعله طفلة تَشَبُّها بامرأة ..
هذه المرّة كانت المشاهد تترى ، متشابكة إلى درجة شديدة، طغت الرموز على شكلها العام، حتى النهاية التي رسمت الصورة الحقيقة لمجمل الأحداث...
الهزيمة لاتكون ذات قيمة ولا يحتفل فيها بالنصر إذا كان الآخر هزيلاً وضعيفاً أو ربما لعين السخط: التي تبدى المساوئ دائماً...
تحيتي وتقديري.
............
سيدي الكريم ..
حين تكون القراءة بعمق وجداني تعطي للنص مقاسات خاصة لا يجيدها غير الفارئ نفسه ..
و حين تقرأ بعمق فلسفي تستحيل معها الرموز إلى أشباه رموز نظرا لما تنطلي عليه الفلسفة من حيل عقلية تسكب في النص أبعادا اخرى لا تنجلي إلا لمن لديهم قوة البصيرة ..
وحين يقرأ النّص كما قرأته هنا اكيد سيجذبني الحديث اكثر ..
فكل دخول لصفحة ينم عن مصداقية القارئ فما بالك لو كان القارئ يحوز صفة التوغل و محاولة لاستجلاء الغموض و حقيقة النّص ..
*** قراءاتك دوما تعجبني سيدي الكريم .. رغم انّي أمنحك الفرصة لقراءات اخرى للأجزاء القادمة لأنّي صدقا بحاجة لتحليلاتك و غوصك الذكي في النّص ..
هذا ما يجعلني أستمتع و انا أقرأ حقا ردا كان ليس كمجرّد رد .. بل يشمل إلى جانب ردة الفعل نتيجة القراءة .. قراءة نقدية اخرى و تحليلية ..
و هي القراءة الحقّة ..
أحيانا الشخص الذي يشعر أنّه " عادة " قوي جدا يحتاج لشيء يفقده نكهة القوة التي يستشعرها بين جنبات ذاته .. فليس بالضرورة هنا ان يكون حقيقة هزيلا أو ضعيفا إنّما وجد من يماثله قوته او ذكاءه .. و هو في ذات الوقت استنطاق للذكاء الآخر الذي قد يكون مختفيا دون إدراك من صاحبه ..
أدعوك بفخر لقراءة ما سيأتي فأكيد العين الناقدة تفتح شهية الكتابة و تمنح فرصة التمعن اكثر فيما ينقص الاحداث ..
أخبرك من الآن انّ هذه الرواية جاءت باستعمال أسلوب الترميز الشديد إن لم نقل عنها أنّها مشفّرة و تحوي أفكارا فلسفية كثيرة .. و أرى انّ حضرتك تميل إلى هذا النوع من التحليلات فلا تحرمني من حضورك الكريم ..
كلّ التقدير على التواجد المميّز و الهطول الغزير للفكر و الفلسفة ..
كلّ التقدير و الاحترام ..