لا أريد أن أتسكع في صومعة أحلامي التي تتكئ على عكازة مكسورة لتوطئة أعصابي المستنفرة منذ بلغت ُ الحلم لا سيما عندما يكون مقياس بطني مؤشرا ً على درجة صفر .
أعصابي تشكل تضاريس مبعثرة على جانبي جبهتي بلون أزرق باهت مستقرة في جمجمتي الصغيرة نسبيا ً ولا أعرف حدودها وأطوالها ومن أين تبدأ وأين تنتهي ومن الذي يوعز لها بامتعاضي كي تُستنفر ولذلك لم أهتد لطريقة لصيانتها أو الحد من مزاجيتها الغير رائقة على الدوام ، فهي كعود ثقاب لايعرف لماذا يشتعل ولماذا يطفئونه بهذه الطريقة المجحفة بالبصاق المهذب ، هذا شيء من ثرثرة طرحتها على الطبيب النفساني الذي سخر مني عندما راجعته في عيادته المحشورة في زقاق ضيق ورطب ، بداية الأمر أعجبني هدوءه وكنت أحدق بوجهه بوضع قلق ، عيناه واسعتان منتفختان تشغل بياضها شبكة أعصاب رفيعة جدا ً كخيوط نحاسية ، لم يرتب شعره ولم يحلق ذقنه إضافة لقطع اثنين من أزرار قميصه الغير مكوي ، فوجئتُ عندما قال لي الفراش الأنيق _ تفضل هذا حضرة الطبيب الاختصاصي والذي استقبلني استقبال رائع يليق بالمعقدين قائلا ً : -
- تفضل اجلس .
- عفوا ً دكتور في الحقيقة لدي ّ باقة من الأمراض المعاصرة جدا ً ..أقصد أرق ..تعب ..قلق .. دكتور هل رأيت شعر يتشنج أي يصبح قنفذي كالمسامير ، هذه حالة حدثت عندي قبل خمس أو ست سنوات واستمرت أربع دقائق وانتهت ولم تتكرر إطلاقا ً – أعني حالة التقنفذ ..
قاطعني الطبيب النفساني بابتسامة باهتة وقال هذه حالة لا تستدعي القلق – قبل لحظات قطّعت ُ أزرار قميصي كما ترى وأشار الى الأزرار المقطوعة – ذلك انني لليوم الثالث على التوالي أضع أمامي الشفرة وأدوات الحلاقة وعندما أبصر نفسي بالمرآة قبل الشروع بالعملية أبدأ بعدّ الدمامل والبثور في وجهي وأنتبه لازدياد الشعر الأبيض على حافتي رأسي وشاربي مع توسع رقعة الصلع فأنسى حلاقة ذقني ثم أراني الزجاجة الكبيرة الشبه مهشمة التي يضعها على سطح المكتب مغطيا ً بها صور طبية لجماجم وأمعاء وهياكل عظمية ومجانين قائلا ً :-
كسّرتها يوم أمس عندما تذكرت اني لليوم الثالث أنسى شراء قلم لكتابة الوصفات الطبية -. هذه أشياء لا تستدعي القلق – الأعصاب استهلكت ْ لطول فترة استخدامها كما أني يوم أمس أيضا ً – أعتقد أمس الأول – لا لا .. يوم أمس .. نعم – حطمت ُ زجاجة النافذة لأني نسيت ورميت ُ القدح بدلا ً من أن أرمي ما تبقى فيه من ماء لمجرد اني كنت جائع – هذه أمور لا تستدعي القلق – كنت ُ أتحين الفرصة كي أشكو له أعراض ما أعاني ولكن دون جدوى ثم أخذ يتكلم بصوت مرتفع كمن يرتجل كلمة أمام حشد من الطرشان وبعصبية لا أطيقها حتى دخل الفراش وهمس بأذني : ماذا فعلت َ؟ ألا تعلم أن الطبيب عصبي فأجبته لا أعلم ،. ثم اني لم أفعل أي شيء لحد الآن ولم أعرض له حالتي بعد .،
الطبيب لازال يسرد علي ّ حماقاته دون انقطاع وقد احتقنت عيناه وبانت أوداجه لكنه لم يكسر شيئا ً لحد الآن واستنتجت ُ انه ماضي قدما ً في خطابه غير الرسمي سواء عرف إني صاغيا ً له أو غير صاغ .، أحسست ُ بدوار ورغبة في القيء وأحاول أن أخرج من هذه المحنة التي تطوعت ُ عليها ، عندما نظر لي الفراش من فتحة الباب غير المغلق تماما ً أومأ لي أن أقرأ عبارة مكتوبة بخط واضح على أحد جدران صالة الاستقبال – رجاء ً عامل الطبيب الاختصاصي بلطف – تأوه الطبيب ولفظ زفرة كبيرة ثم وضع يديه على وجهه وغطى نصفه الاعلى بما في ذلك عينيه مستندا ً على عكسيه فوق مكتبه مما أتاح لي فرصة التسلل من العيادة وقد وجدت ُ بباب العيادة ثلاث أو أربع مراجعين ينتظرون دورهم مرتدين ملابس شتائية صوفية من عدة قطع رغم إننا في شهر حزيران وقد سألني أحدهم :-
- هل يوجد مع الطبيب أحد ؟
- كلا لايوجد أحد معه .
- هل تظهر على الطبيب علامات جوع ؟
- آآآه .. ملعون .. أنه جنون من طراز رفيع ، وعقّب َ الفراش – لايستدعي القلق .......
قرأت القصة وتذكرت موقفا مررت به عندما تشجنت ساقاي ونصحوني بالذهاب إلى طبيب نفسي وحين ذهبت طلب مني التمدد على المنضدة المستطيلة الطويلة وطلب مني الحديث عن ماضي الطويل وحين أخبرته بأني لست مريضا نفسيا وإنما جسديا صرخ بوجهي وقال أعرف ذلك ولكن ماضيك له علاقة بأمراضك الجسدية فحدثته عن ماضيّ الذي تأفف من سماعه ولم أدع له شاردة ولا واردة لم أخبره عنها فهمهم قائلا اجلس وأخذ يملأ ورقة العلاج فإذا به يعطيني 17 دواء أكثرها مسكنات وحين ذهبت إلى الصيدلاني نظر إلي بغضب وقال هل أخبرت الطبيب أنك تريد الانتحار ووافق على ذلك قلت نعم وحين أدار الصيدلاني ظهره لي أطلقت لساقي العنان هاربا
الظاهر أننا نعيش في عصر الجنون الذي استشرى عند طبقة المتعلمين
استاذنا وشاعرنا الكبير عبد الرسول معلة
محبتي
أشتقنا اليك
لك المحبة كلها على هذا المرور الذي يلبس النص تاجا فيزهو
هنيئا للنص الذي تمر عليه ..هذه القصة من مجموعة بنفس العنوان صدرت قبل خمسة عشر سنة
وكتبت في مقدمتها ..أنا اعقل مجنون في العالم ولا يهمني الموت الذي يلاحقني كذئب