.. ثقافة الظاهر اكتشفت شيئا خاصا و منطقا غريبا .. هو عمق الفجوة بين الرّوح و الجسد، الجسد بأهواله و أشباحه الساكنة المترّقبة في خبث و صمت و تذمر .. و الرّوح القابعة بين جنبات الجسد في خجل شديد و استحياء مما قد يطرأ فيدنّسها .. مما قد يعكّر صفوتها و يقطع بوصلات عنائه الصاخب موسيقاها الحزينة الهادئة .. تلك الطاقة القصوى التي منحتها لي العاصمة من الحرّية الصارخة التي لم أجدها بين تجاويف قريتي .. بعيدا عن العيون المتطفّلة و القيود المحاطة بذاكرتي خوفا من تورّطها في قضية انتحار للمبادئ و هروبا من حدس عائلتي الموَّجه بعقارب بوصلة شرقية تتقن طقوس الولاء .. العاصمة قلبت المواقيت رأسا على عقب .. فتساوت عند حدود نافذتي إطلالة شمس و بزوغ قمر، تساوى اللّيل في صمته و همس رواده و النهار في ضجيجه و أصوات أحيائه المكتظة بأنواع البشر و السيارات .. تساوت عند قدميَّ الظلال .. لم يعد الزجاج الحاجب المثبّت داخل عينيَّ يصلح ليحجب عني أشعة بنفسجية سربّتها شموس مصطنعة .. في العاصمة كل أصناف النساء ... في الأحياء التقليدية لا زالت التقاليد تطبع وجودها في ذاكرة كبار السّن من اللّباس التقليدي إلى الجلسات النسائية و السهرات خاصة في شهر رمضان مع لعبة " البوقالات " و الفال و هي قصاصات ورقية تحوي مجموعة من الجمل قد تسمى قطع شعرية لكونها في أغلب الأحيان مقفاة، بالمفهوم العامي أو حكم لها معنى خاص تقرأ باللّهجة الجزائرية تجتمع عليها النّسوة .. بحيث توضع في إناء ما و تسحب في كل مرة واحدة تعتبر بمثابة الفال السعيد بالنسبة لساحبتها .... مجرّد خرافات تركها السلف و قاطنو أحياء العاصمة الحقيقيين مثل حي القَصَبَة العتيق ... قد تتشابه العاصمة مع قريتي في جوانب ما منها قضية التقاليد لكن بأقل وطأة .. كنت في سمائي الحرّة أحلّق متى شئت و أسافر متى شئت و أنام متى شئت و أستيقظ متى شئت ... لا شيء يردعني غير هاجس الإجازات و إجبارية السفر إلى قريتي لقضائها هناك .. كانت لي مغامرات نسائية خارج حدود كليّة الحقوق حتى مع نساء يكبرنني سنا ... محاولة مني لقبول منطق غريب عني تماما و خط أحمر لم يكن بإمكاني تجاوزه، و هذا ما حدث، مجرّد تطلّعات نحو سماء كنت أراها تنتمي لكوكب آخر غير ذلك الذي ضمّ طفولتي و سرّح شبابي و أرغمني على الصعود لاهثا فوق أدراجه الموسيقية و صخب الاحتكاك بالحائط الملاصق ... مجرّد اهتزازات على مستوى سلّمي العاطفي و ارتجاجات مسّت أعمدتي السطحية، لم تخلّف غير قطع متناثرة سرعان ما هزّتها رياح الخريف و ألقتها بعيدا حيث تجمع مهملات النّفوس و ذخائر الذاكرة المنسية ... لا بأس .. قررت أن أفتح حقيبتي الدبلوماسية التي تحوي وثائق جد سريّة عن مرحلة من حياتي أردت ردم أنقاضها .. ودفن رفات الأحلام المنتحرة على ضفاف نهر الحب المستحيل .. و عن قصة الموت التي تربّصت بي على جذع كتاب بائس .. انتحر برمي نفسه من أعلى رف .. كنت حينذاك مشروع قصيدة لامرأة أضاعت حروفها عنوة ... و راحت تبحث بين أشلائي عن عنوان تضمّه لقائمة كتبها المحنّطة و المخبّأة بعناية امرأة داهية، تحت حقول ملّغمة .. قد يفاجئك انفجار ما إذا ما حاولْت تقصّي حقيقة حرفها المغمور بغرور قاتل ... أو تتبّع رقعة ثوب خلّفتها أميرة هاربة بين سطورها ... كانت هي .. امرأة من زمن قديم لا زلت أتبرّع له كل سنة بقطرات من دمي ليبقى حيا ... مدينا لي بحياته . استوقفني جبروت أنثى الشال الغامض عند محطّة الاعتراف .. و كان ذلك الجزء المعذّب من قلبي قد بدأ يمارس طقوس احتضاره فأعادت إحياءه بقطرة عطر سكبته ليلتها على جرحي العميق .. شيء ما يشبهها .. تفاصيل جنون نسائي متمرّد .. ياسمين مجفّف على عتبات بابها الموصد، ضباب ما يسكن وجهها .. بريق خافت أرسلته سماء تلك اللّيلة ليدّوي بأعماقي و يشعل جمر الذكرى .. و كأنّه نداء اشتعال مزدوج .. رقصة بلورية تمدّدت لتوقع بزجاج أنهكته قذائف الحنين فجرحتني في الصميم، مزحة، خرافة، انبعاث قدر من عمق السماء .. بعد أن أتممت دراستي و توظّفت .. عدت بعد سنتين بشوق كبير يعتريني للتسكّع داخل الجامعة .. كنت أحضر لشهادة الماجستير . حين رأيتها أوّل مرة كانت تبدو شاحبة .. مسحة حزن و ألم تعتصران وجهها النحيل لكن شيئا ما بملامحها يستنطق شرعية الحب بداخلي .. سحر ما يحاورني من خلال مشيتها المترنّحة .. الممزوجة بشيء من كبرياء قاتل .. و وهن تداوى من عنفوان جسد .. تلك الأنثى لوَّنت بشحوبها سماء ذلك اليوم الكئيب بلونها الأشقر و كأنّها تصنع لنفسها شمسا أخرى بحدود جغرافية أقل جرأة و أقل شاعرية من تلك التي ترسمها شمس المغيب .. صنعت لي من خلال إطلالتها من نافذتي المعزولة و ما يحيطها من حقول زهر قاحلة مجدا آخر، حين تسلّقتها لأصل إلى فردوس الكلمات .. و أُرصِّع بها تاج مملكتي .. كانت أنثى ... بطريقة يختلف معها اللّفظ إذا تعلّق الأمر بأجيال نساء .. و كأنّ الكلمة تحمل بين حروفها ألغازا تواريها انحناءة الحروف و الرّسم المتشابه .. تماما كما هو الرسم الخارجي لجسد امرأة بحدوده المشّعة أو الخافتة أو البرّاقة بتواطؤ كهربائي مخادع، كانت هي من أولئك اللاّتي يزدن الشمس تمرّدا و رغبة في التوّهج، نكاية في الغيوم المتجّمعة من سجائر رجل مكابر و بقايا احتراق لامرأة فقدت رونقها و سحرها و جاذبيتها على أنغام عود لرجل تعلّم العزف حديثا فكان سهلا تعثّرها بظل قامة رجولية فارهة .. كنت أنا فقط أعرفها من بين توأم الكلمات المتشابهة و توأم الأجساد النّحيلة المتشابهة و فساتين السهرة التي تحمل مقاساتها و الأحذية العالمية التي تدندن و ترقص على أرضية ملساء، فيختلف الصدى من مشية لأخرى، كنت أعرفها من عطر لم أشمّه عليها و إنّما صنعته لها من احتراقي، عطرا تصوّرته لها من وحي قصائدي .. كنت أحسن رسم شكلها بطريقة يتكّهرب معها قلمي و تتزيّن لها الصفحات و تنحني لها السطور .. و كنت حينذاك جاهلا بأصول الحب و شعوذاته، كانت تصغرني ببضع سنين لتوّها داست تراب الجامعة ... لكنّها كانت بحنكة جيش من النسور و سرب من الحمام الزاجل . تعرف تماما أين تضع شفرة كلماتها لتقطع بها صمتي المتواري خلف قصيدة شعرية ... و متى ترفع إشارة التوقّف .. تعرف متى تخفض راياتها و متى تستعملك وتدا لتعلّق عليه رغباتها و ميولها ثم تطوِّع الرّياح حتى ترفرف بك .. كراية لوطن جديد . تلك المرأة علّمتني كيف أصنع من الأحاسيس المشرَّدة بين أوردتي و شراييني حبا تعترف به كل القارات و كل العصور .. لكنّها كانت قاسية لحدود المستحيل، متجبّرة لحدود عاصفة ثلجية، قادمة من عمق الجليد، رشيقة الخطى، حين تسير على حبل أفكاري تقطعه في ثوان و ينهار ما بعد خطاها ..كبرياؤها الصاعق و لحظات جنونها قد تفجّر ألغام العالم المتوارية، المنتظرة في خبث مرور تاريخ كي تدنّسه .. كانت مصابة بداء الهبوط في القلب، أحيانا كثيرة كانت تقع و تنقل إلى المستشفى شبه ميتة .. حين تعرّفت عليها أوّل مرة كانت تقرأ ديوانا شعريا لنزار قباني و قد أحاطته بكامل أناقة اهتمامها و تزيّنت له كما لو أنّها قصيدة ستنافس قصائده، امرأة تثأر من الكمّ الهائل من النساء، المتربّعات على عرش الأسطر .. و كأنّها تغار من هفوات الكلمات .. كان ذلك الصباح شاعريا و كأنّه يحاكي قصيدة حب . حتى إطلالة الشمس كانت خجلى تختف من الحين للآخر بين الغيوم السمراء كامرأة تحتمي بشالها الأشقر من نظرات عاشق متطفّل.. يوما من أيام البدايات الهستيرية لأيلول، الذي قد يفاجئك بشمس حارقة تخادعك حتى تنثر ضجيج أحلامك عليها ثم يغيّر رداءه و يمطر ليجرف معه ما استحال تحقيقه منها .. فيلقّنك في ثانية مرهفة الإحساس فن التشاؤم و الرغبة في انتحار مفاجئ على ضفاف نبع الصفحات الشاحبة .. و رقصات المطر الحزين . تماما يشبهها ذلك اليوم في انقلاباته، في شجنه المسكوب في فنجان قهوتي المر و كنت بحاجة لأن أتجرّعها لأفقد وعيي و أتوه في عالمها الكئيب .. قد يوصلني الانتحار على عتبات نهرها بفنجان قهوة مسموم، إلى التصنُّت على ذبذبات قلبها الهزيل .. قمّة السّحر أن تسكن شغاف قلب عليل .