لملمته دروبها الحزينة في صمتها وظلامها..
جثم على رئتيه هواؤها المشبع بالقهر..
وفوق ترابها الأسير، تردّدت خطواته الرتيبة التي بدت كأنّها تحرّك أشلاء وليس جسدا ينبض بالحياة.
لم يعد يحلم منذ أن جاء الغرباء..
أنفاسهم العطنة تفسد المذاق البكر للحياة، وأحذيتهم الثقيلة لا تفرّق بين الحصى والبراعم وأحلام الصغار.
في كلّ بيت منهم جرح، ما بين القتل والإهانة والاعتقال.
وها هم أولئك يجرّرون صديق عمره، مكبلا بالقيود ويلقونه في شاحنتهم وينطلقون إلى المجهول.
وهو يعرفه: لم يكن أكثر من فنان يحلم.
أنّى له إذن أن يدبر عمليات المقاومة ضدّهم كما يزعمون؟
ولكنّهم لا يحتاجون إلى دليل.. وشاية أيّ حقير تكفي!
لو أنّ صديقه فعلا قد تغلب على رهافة حسّه وانتمى للمقاومة، لما اندهش!
***
لم يعد يحلم منذ أن جاء الغرباء..
لأنّه ببساطة: لم يعد ينام!
جلس في عتمة الليل مسندا ظهره إلى الحائط المواجه للباب، ويده تلوذ بمسدسه الصغير.
كلّ ليلة كان ينتظرهم.. كان يعرف أنّهم سيأتون.
ليس بيته أوّل أو آخر بيت يدنسونه، وهو لا يمكن أن يسمح لهم بهذا.
هذا آخر مكان يمكن لهم أن يطأوه وهو على قيد الحياة.
نهض ليتأكّد من أنّ صغيره قد غفا في حضن أمّه.
ثمّ عاد ليجلس في مواجهة الباب.
***
انتفض فجأة في ذعر عندما شعر بتلك اليد على كتفه..
ولكنّ زوجته ربتت على كتفه وسألته بإشفاق:
- ألا يجب عليك أن تريح جسدك المنهك؟
شعر بالغضب من نفسه.. يبدو أنّ سِنَة قد أخذته فغفا لحظة.
رفع لها عينين حمراوين خجلتين، وأراد أن يقول شيئا.
ولكن شيئا ما اضطرب في ذهنه فجأة ومادت به الأرض.
أغمض عينيه وهزّ رأسه بعنف ثمّ فتحهما.
كابوس هو حتما.
كان ذلك العلج ينتزع صغيره المذعور من حضن أمّه، وآخر يتقدّم نحوها.
انتـفض نحوهما.. فقط ليكتشف أنّ وغدين يشلان حركته تماما، وأنّ يديه مقيدتان خلف ظهره.
خفق قلبه بسرعة والذهول يكتنف عقله.
كابوس هو؟.. أليس كذلك؟
عدّة ليالٍ لم ينم.. لعلّه سقط في النوم رغما عنه، وتجسدت مخاوفه في صورة هذا الكابوس.
صرخت زوجته صرخة مذعورة، فانفجرت كلّ أفكاره، وتهاوت عن مشهد ذلك العلج وهو يعتدي على عِرضه.
هزّ رأسه غير مصدّق.
هذا كابوس.. كابوس.. كابوس.
ردّدها لنفسه مرارا دون جدوى.
سنوات من الذكريات تداعت في ذهنه في ثانية واحدة.. كلّها أكّدت له أنّهم يقتلون أجمل ما فيه.
هنا صرخ صرخة مريعة، وتملّص من العلجين اللذين يكبلانه بقوّة لم يتوقعاها.
واندفع رغم قيوده لينقذ عرضه.
ولكنّ ذلك العلج الذي كان يمسك صغيره تركه واعترض طريقه.
صدم العِلج بقوّة، فدفعه للخلف ليصطدم بالحائط.. ولكنّ زميليه انقضا عليه من الخلف وشلا حركته مجدّدا.
لم يستسلم.. زأر في جنون وحاول التملص منهما.
ولكنّ ضربة بسلاح أحدهما على رأسه أنهت كلّ شيء!
***
لم يمت.
حتّى الموت ضنّوا به عليه!
أفاق ليجد نفسه ملقى على أرض بيته المدنس، وبقعة من الدماء متجمدة على رأسه.
وتناهى إلى مسامعه صوت عَبرات تسيل على خدّ امرأته.. أحرقت كالنار قلبه.
ولكنه لم يلتفت.
لم يعرف ماذا يمكن أن يحدث لو التقت عيناه بعينيها في تلك اللحظة.
لم يكن يريد أن يرى فيهما رجولته التي انكسرت.
ولم يعرف كيف غادر بيته.
ولا كيف عادت تلملمه دروب بلدته الثكلى في صمتها وظلامها.
جثم على رئتيه هواؤها المشبع بالقهر..
وفوق ترابها الأسير، تردّدت خطواته الرتيبة التي بدت كأنّها تحرّك أشلاءً وليس جسدا ينبض بالحياة.
لم يعد يحلم منذ أن جاء الغرباء.. ببساطة: لأنّه كان يعيش كابوسا مزعجا بلا انتهاء.
كان عقله يحترق..
قلبه يحترق..
كِيانه يحترق..
أحس أنّه لو لم يُخرج هذه الطاقة كلّها فسينفجر.
ولهذا انطلق يعدو فجأة.
انطلق بسرعة محمومة، قفزت بدرجات قلبه إلى الذروة.
وكلّ ما كان في ذهنه ساعتها، صورة حِصان بريّ يمزّق قيوده وينطلق كالرياح.
انطلق يعدو ويعدو..
يعرقله هواؤها اللزج ولكنّه يعدو..
يجثم عليه القهر والقيد فيعدو..
تبتلعه غُصص الظلام، ويضلّله الليل إلا إنّه ظلّ يعدو..
لم ينتبه إلى أنّه يتجه إلى منطقة محظورة..
أوّ أنّه انتبه ولم يبالِ..
ومنذ متى كانت هناك مناطق محظورة عليه في بلده؟
ومن أعطى للغرباء الحقّ أن يحدّدوا ما هو مسموح وما هو محظور؟
ازداد غضبه، فازدادت سرعته.
تجنّح الحصان في ذهنه ليحلّق في سمائه الأبيّة، حول المآذن الشامخة.
إنّه حرّ..
لم يكن يوما عبدا لهم.. ولن يكون.
سُحقا لهم وسَحقا.
***
فجأة اختلّ توازنه..
شيء ما عرقله، فسقط في عنف وتدحرج أرضا..
زأر الغضب في أعماقه، ونهض يهدر.
ولكن رجلين ملثمين كبلا حركته وكمّما فمه وجذباه قسرا إلى بيت قريب.
وبينما يلهث في غضب نظر لهما.
شيء ما في نظرة أعينهما هبط بردا وسلاما عليه.
تبادل معهما النظرات لحظات في صمت.. ثمّ مدّ أحدهم إليه يده بمدفع رشاش، قائلا:
- لعلك كنت تبحث عن هذا!
***
عرف أخيرا من هو وأين تقف دوريته..
ذلك الحقير الذي ذبح عرضه.
وجد أربعتهم معا.. عند ذلك الحاجز الذي يمزّق أرضه الحرّة، يدخنون ويتبادلون نكاتا بذيئة وضحكات ماجنة.
كان يقترب، فأشاروا له بالتوقّف، وهم يشهرون أسلحتهم في تحفز.
لم يبد على أحدهم أنّه تذكّره، فلا ريب أنّ الجميع لديهم بلا ملامح!
توقّف وهو يرفع يديه عاليا، ليقترب منه ذلك الذي ذبح عرضه.
لم يكن يحلم بأكثر من هذا.
في سرعة البرق لوى معصمه لينتزع خنجرا أخفاه في كمّه، وبضربة واحدة كان يغمده في عنق ذلك العلج.
لم يكن متوحشا.. ولكنّه أقسم في نفسه إنّه لم يرَ في حياته أبدع من جحوظ عيني هذا الدنيء وهو يحدقّ فيه في ذهول ويجاهد لارتشاف الهواء.
وصرخ الجنود في ذعر وصوّبوا أسلحتهم نحوه.
ولكنّه لم يأبه بهم.. بل حرّك خنجره فجأة بعنف ليبتر ذلك الرأس عن منبته، ليسقط متدحرجا على أرض تكرهه.
هنا أفاق الجنود من ذهولهم، وهتف واحد منهم:
- أطلقوا النار.
ولكنّ النار انطلقت عليهم من كلّ صوب، فحصدت اثنين منهم، بينما احتمى الثالث خلف الساتر.
ومع دويّ الرصاصات، تصاعدت صفارات الإنذار وسمع هدير مركبات تقترب، وجنود يهرولون إلى الموقع.
ولكنّه بدلا من أن يهرب، قفز صوبهم.
استقبلته رصاصاتهم، فلم ترهبه، ولم يشعر لها بألم في ذراعه ولا في ساقه ولا في صدره.
كان فاقد الإحساس إلا بكرامته..
وبذلك الحزام حول وسطه.
وفي قفزة أخيرة سقط خلف الساتر، فصرخ العلج الرابع في هلع، وهو يجده أمام وجهه.
وفي قسوة نظر في عينيه وهو يجمجم:
- إلى الجحيم.
ودوّى انفجار عنيف، ليجتث كلّ العلوج من فوق أرضه الطاهرة.
***
لجمت دموعها بقوّة فولاذيّة.. فليس في يوم كهذا تسكب الدموع.
إنّها اليوم عروس بطل.. عروس شهيد.
مات ليعيد إليها شرفها السليب.
امتلأ قلبها بصورته، ورفّت بسمة حزينة على شفتيها.
كان أجمل شيء في حياتها.. وسيظل.
اتجهت إلى صوانها وأخرجت كوفيته، وأشارت لصغيرها فاقترب منها..
لفّتها حول عنقه باعتزاز.
لم يمت البطل بعد.. ما دام هناك بطل من صلبه ينتظر دوره ليخضب بدمائه أرضه الحرّة.. أرض آبائه وأجداده.
إنْ هذه إلا بداية.
مجرّد بداية.
واحتضنت بطلها في قوّة.
***
محمد حمدي غانم
29/1/2004
طوبى للشرفاء الذين لن يضنوا على الوطن بأرواحهم
طوبى للشهاء الذين رووا الأرض بدمائهم الزكية
الأستاذ محمد حمدي غانم
نص مؤثر سلمت يداك
تحياتي وتقديري الكبير