والصورة هنا شديدة القسوة لأن تلك الفأس التي قطعت الشجرة قادها غصنٌ من صلبها (من صلب الشجرة ) أي أن هناك خيانة
عظمى كانت متربصة بتلك الشخصية الأنثوية التي شبهها الشاعر بالشجرة
غير أن ذلك الغصن الذي قاد الفأس وقطع الشجرة لم ينل الحظوة التي ربما كان ينتظرها بعد فعلته تلك ..بل صار نكرة موسوما بالخيانة
التي ــ دون شك ــ لن تفارقه حتى الأبد
ويعود الشاعر إلى مخاطبتها في المقطعين الأخيرين بعدما تيقن من هجرها ..وبعادها
دعي لي حين تطويني المسافات
نلاحظ أن الشاعر قد أحسن استثمار العناصر الجمالية متكئا على ما يقضّ مضجعه ويؤرق جفونه مؤكدا بأن المسافات سوف تطويه
بعد ذلك الهجر ليختار الترحال مستجديا ذلك النسيان الذي أكد في العنوان بأنه يعيش بين مخالبه ..وها هو يخاطبها قائلا
عندما تطويني مسافات الترحال دعي لي ما تدلى بين أغصان قلقي من ثمار فهو يشبه القلق ضمنيا بالأغصان التي سوف تتدلى منها ثمار أكيد سوف تكون أشد وطأً من القلق ..
يرى" Marcel prous " بأن الأسلوب بالنسبة للكاتب تماما كاللون بالنسبة للرسام وأنه مسألة رؤية أي خيال "..
وبالتالي فالأسلوب هنا عند الشاعر ناظم الصرخي يعتمد على التشكيل حتى كأن المتلقي يشعر وكأنه يرى صورا مرسومة تتسلسل تباعا لتكمل
الواحدةُ منها الأخرى ..فها هو يجتر لوحات انتظاراته تلك التي اختزلت مشاهد عدة لا تريد أن تفارق خياله .. ليستحضرها وهو يقف على ربوة الوداع الأخير
طالبا من تلك المرأة أن تترك له تلك اللوحات كأنيس ـــ لقابل أيام الوحدة ـــ تصحبها أنغام ابتهالاته عندما كان يبتهل إليه تعالى داعيا إياه ألا يطيل ذلك الفراق
وقنديلا يشاركني دجى الأرق
ترامى ينشب الأظفار في حدقات أسفاري
مازال الشاعر يسرد عليها طلباته الأخيرة المتمثلة في رجاء لا يزال ينتظر من ورائه أملا رآه ضئلا وهو يقول
لا تطفئي كل قناديلي ..بل دعي لي قنديلا واحدا يحمل معي أثقال دجاي ..ويشركني كأس التسهد ...
دعي لي حزنا رافق العمر.. وهو تصريحٌ منه بأن عمره كله قد انقضى بين فكي الأشجان لتبقى (تلك الأشجان)
كظل يلازمه ولا يرضى عنه بديلا ..متراميا بين خطاه ..ناشبا أظفاره في حدقات أسفاره .. تلك الأسفار التي اختارها راضيا حتى ينسى ..
ولكنه للأسف الشديد لم يستطع ..لأن الذكرى هنا حاضرة ٌ بين كل خطوة وأخرى ..وهو يستجدي أليفته طالبا منها ألا تقطع آخر خيط من خيوط الأمل ..
ونلاحظ هنا جمالية الصور البلاغية المتمثلة في تجسيد الظل الذي جعل له أظفارا..إضافة إلى الانزياح الدلالي لكلمة الحدقات ..
التي استعملها الشاعر في غير موضعها مشخصا الأسفار بعدما رسمها على هيأة شخص له حدقات ...
كما استعار كلمة بؤبؤ من العين لينسبها إلى الشفق في سبيل الاستعارة المكنية ...
دعي لي مفردات العشق في تابوت أيامي
ويختم مقطعه الأخير بما ظل يرجوه منها ..وهو يخبرها به ضمنيا ..فحالته بعدها صارت أكبر من أن تحاوطها لغته الشفيفة ..
ليبدأ في سرد ما آل إليه حاله وكأنه تيقن من عدم عودة أيام الوصال ..واستصعب النسيان متأكدا من كونه سوف يظل على أطلالها واقفا منتظرا ..
محدثا طيفها الذي يأبى فراقه مستكملا نجواه
دعي لي مفردات العشق ..تلك المفردات التي كان يسمعها منها ..وهو يطلب منها أن تتركها له في تابوت أيامه ..
وبذلك فهو يخبرها ضمنيا بأنه قد صار جسدا بلا روح وهو يرى نفسه قد انتهى لتتحول أيامه بدونها إلى تابوت وهي كناية على ضيق العيش بعدها
وحرفا بات مصلوبا على بابك
ورغم القطيعة .. ورغم قسوة تلك الأليفة إلا أنه لا يزال مصرا على عدم التجرد من تلك الحروف التي كان يبعث بها إليها وكانت تصدها لتبقى مصلوبة على بابها ..
وهاهو يرفض أن يتخلى عنها ..لتبقى رفيقة دربه ..وفاءً
وأشعاري التي صلت في محرابك
ويعود من جديد ليصرّح بتلك الأشعار التي وقعها لها وحدها ..وما زال يصر على الاحتفاظ بها ..ويطلب منها ألا تحرمه إياها لأنه ما زال يحن إلى أيام مضت
وبقي أريجها يعطر حاضره المفرغ من تفاصيل أليفته
وتأتي الخاتمة صادمة نوعا ما باعتراف الشاعر بأنه تاه في نفقه ..فأي نفق هذا الذي قيده أخيرا ..؟؟
وهذا دليل قاطع على قمة توتر الأحاسيس..مع شدة القلق
وهو يصرح بنزقه الذي ضاق به ذرعا بعدما اتبع مشاعر ربما قد تكون كاذبة أو هي من جهته فحسب..
وبالتالي فهو يطلب منها أن تترك له بحرها المجنون ..مصرحا بجنونها الذي يتمنى أن يغرق بين أمواجه لعله يصحو يوما ويجد نفسه قد شفي منها بالنسيان
مجمل القول نلاحظ أن لغة القصيدة جاءت منضدة بأحاسيس وجدانية
معتمدة على اللفظ المباشر ذي الدلالة الصادقة من حيث المشاعر والأحاسيس التي تبوح بمكنون صاحبها ..وتعبر عما يختلج بين حناياه ليُخرج تلك
الآه الكامنة بصدره وهو متيقن بأن المتلقي سوف يحملها معه أو يعيش تفاصيلها حرفا ..حرفا ..ونزفا نزفا
لم تخل القصيدة من بعض الانزياحات الدلالية والصور البلاغية التي تناثرت هادئة بين الأبيات التي هذبها الشاعر ببحر الوافر أحد أجمل بحور الشعر..
كانت الصور تتسلسل طيعة غير مصطنعة وكأنها زبدة لمخيض الوجع الذي شكلها على مقاس معين ليستسيغها القارئ وهو يتتبع أبياتها بهدوء و..
كأنه ينتظر مع الشاعر بصيصا من النور
ومن البيت الأول تستوقفنا الموسيقى بتأثيرها الفعال في بلورة الحس الجمالي لهذا النص معتمدة على تلك الأصوات اللغوية المتناغمة لتُخرج
ما اكتنف الحالة الشعورية المكتنزة على وتيرة واحدة لم ينطفئ أوارها من أول حرف إلى آخر كلمة
وهذا بطبيعة الحال لا يكون إلا بالإيقاع الداخلي والخارجي الذي تؤسسه الحروف والكلمات وتشيده الدلالات والإيحاءات
طيب الله أيامك شاعرنا الكريم
ولك مني مفردات التقدير والثناء ..